سماحة الشيخ سامي أبي المنى: حكيم الحوار والتآخي
بقلم الدكتور نضال العنداري
في عمق الجبل اللبناني، حيث تنساب الحكايات بين الصخور، وتغني الطبيعة ألحان الإيمان والسلام، وحيث يفوح عبق التاريخ من كل شبر من ترابه، وُلد سماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى عام 1957 في بلدة شانيه الوادعة، تلك البلدة التي تتربع على قمم قضاء عاليه كزهرة جبلية تُطل على وديان الوطن بتواضعها وشموخها. هناك، تحت ظلال الأرز الراسخ وفي حضن عائلي مشبع بالقيم والعلم والحكمة، كُتبت أولى صفحات حياته ليُصبح لاحقًا حكيم الجبل، ورائد الفكر الديني والوطني، ورمزًا وطنيًا وروحيًا لطائفة الموحدين الدروز.
لقد أضاء الشيخ سامي أبي المنى درب الحياة بفكره النيّر وحكمته المتوقدة، جامعًا في شخصه بين التواضع الراسخ والعلم العميق. درس وتبحّر في علوم الدين والفلسفة، وتوّج مسيرته الأكاديمية بشهادات رفيعة، لكنه آمن أن العلم وحده لا يكتمل إلا بالعمل، وأن الفكر لا يثمر إلا إذا تحول إلى رسالة سلام ونورٍ تهدي الإنسانية إلى بر الأمان.
تجلّت قيادته الروحية منذ شبابه في إيمانه العميق بالمحبة والاعتدال، فحمل راية التوحيد بكل مسؤولية وثبات، ليُصبح رمزًا ساميًا للقيم الروحية والإنسانية. لم يكن مجرد شيخ أو قائد ديني، بل كان وما زال حارسًا أمينًا على إرث الجبل وحكمته، وسفيرًا للحوار، يقف عند مفترق التحديات ويجمع القلوب المتباعدة.
آمن الشيخ سامي أبي المنى بأن الرسالة الدينية لا تُختزل بالوعظ أو الطقوس، بل هي رسالة محبة وتآخٍ تعانق الإنسانية بأسرها، فسعى عبر مسيرته الطويلة إلى نشر ثقافة الحوار بين الأديان والطوائف، ليُعيد رسم صورة الوطن الذي تتشابك فيه الأيدي قبل الأصوات، وطن يتسع للجميع، فلا مكان فيه للكراهية ولا موضع للتفرقة.
في زمنٍ كثرت فيه الصراعات وتشابكت الأزمات، برز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى كصوت الحكمة الذي يعلو فوق الجراح، وكلمته كانت دائمًا بلسماً يداوي النفوس. دعا إلى الاعتدال والوسطية، وجعل من الحوار قاعدة ثابتة لبناء مجتمع متماسك، تسوده قيم المحبة والعدالة.
لقد حمل راية التجديد والتطوير داخل الطائفة، مكرّسًا وقته لبناء الإنسان وتعزيز التعليم والوعي. ولم يتوقف عند حدود الطائفة، بل مدّ جسور التواصل مع مختلف الأديان والطوائف، ليكون حقًا رسولًا للتآخي والعيش المشترك.
في كلماته تجد نور الحكمة، وفي أفعاله ترى الصدق والإخلاص. فهو الرجل الذي لا يملّ من العمل لأجل الآخرين، يُصغي إلى الصغير قبل الكبير، ويواسي المحتاجين قبل الأقوياء، ويزرع في دروب الحياة بذور الأمل رغم الرياح العاتية.
إن سماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى هو تجسيد حي لمقولة “العلم نور، والحكمة قوة، والتسامح رسالة”. فهو الحكيم الذي أبى إلا أن يعلو بالرسالة التوحيدية نحو رحاب الإنسانية الأوسع، وهو القائد الذي اتخذ من الرحمة أساسًا لحكمته ومن المحبة جسرًا للتواصل بين البشر.
في كل موقف، كان صوته الهادئ يشبه نسيم الجبل، يلامس القلوب وينشر السلام. وفي كل تحدٍّ، وقف كالطود الأشم، صامدًا، عازمًا على إعادة بناء ما تهدّم، وإعادة جمع ما تفرّق، لترتفع صروح المحبة والوفاق فوق كل الاختلافات.
من شانيه إلى كل لبنان والعالم، يبقى سماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى رمزًا للحكمة، أيقونةً للسلام، ورسولًا يحمل نور التآخي ليضيء به دروب أمة تتطلع إلى مستقبل أفضل. إنه حكيم الجبل… وصوت الضمير الحي في زمن الصمت.
نشأة متجذرة في التوحيد والنخوة
نشأ سماحة الشيخ في كنف عائلة عريقة، متشبعة بقيم التوحيد والفضيلة. والده المرحوم الشيخ أبو كمال نايف أبي المنى، الذي استشهد عام 1984، كان مثالًا للرزانة والانفتاح والنخوة والتضحية، وقد ترك بصمة لا تمحى في روح نجله. ترعرع سامي أبي المنى على هذه القيم التي سترافقه في مسيرته، مزجًا بين التقاليد الروحية للموحدين الدروز، والرؤية الإنسانية التي تعلو فوق الانقسامات.
المسيرة التعليمية: رحلة البحث عن الحكمة
بدأ دراسته في مدرسة شانيه قبل أن ينتقل إلى الداوودية في بعقلين، حيث تلقى بعضاً من علومه على يد الشيخ العلّامة أبو علي سليمان أبو ذياب. هذه المرحلة كانت التأسيس الأول لشخصية الشيخ الفكرية، حيث انغمس في دراسة العلوم الدينية واللغوية، مُستلهِمًا من إرث التوحيد جذورًا معرفية عميقة.
أكمل دراسته الثانوية في ثانوية بعقلين الرسمية، ونشأ نشأة دينية في كنف الشيخ الفاضل أبو محمد جواد وليّ الدين. من هناك، انطلق إلى الجامعة اللبنانية، حيث حصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها عام 1980، قبل مرحلة الدراسات العليا في الأدب العربي، سنواتٌ من البحث والقراءة قادته لاحقًا إلى جامعة القديس يوسف، حيث حصل على درجة الماجستير عام 2011 في العلاقات الإسلامية المسيحية، متوّجًا رحلته الأكاديمية بالدكتوراه عام 2015، من خلال أطروحته المميزة حول الحوار الإسلامي المسيحي، والتي شكلت حجر الزاوية لرؤيته الفكرية.
بين القيادة الدينية والتجديد الفكري
قبل أن يُنتخب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، تقلّد سماحته مناصب عدّة أظهرت مهاراته القيادية ورؤيته المتجددة. عمل أمينًا عامًا لمؤسسة العرفان التوحيدية لفترة طويلة، حيث ساهم في تطوير التعليم الروحي والفكري للطائفة، وترأس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز لخمس عشرة سنة، ما أتاح له المساهمة بشكل مباشر في صياغة الرؤية الثقافية والدينية للطائفة.
كما كان سماحته عضوًا في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي وفي غيره من المنتديات الحوارية، وهو دور يعكس إيمانه الراسخ بأن الحوار هو السبيل الأمثل لتجاوز الأزمات، وأن التعايش الديني والثقافي هو السبيل لبناء المجتمعات.
انتخاب بالتزكية: إجماع على الحكمة ووحدة المسيرة
في 30 سبتمبر 2021، انتُخب سماحة الشيخ سامي أبي المنى بالتزكية لمقام شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز، خلفًا لسماحة الشيخ نعيم حسن، ليصبح الحارس الأمين على الإرث الروحي والثقافي للطائفة. لحظة انتخابه كانت لحظة إجماع وطني وروحي، أكدت على مكانته القيادية ودوره المحوري في تعزيز الوحدة بين اللبنانيين.
روح متواضعة وقائد بالفطرة
في زمنٍ تشحّ فيه البساطة، يطلّ سماحة الشيخ سامي أبي المنى كنهرٍ صافٍ ينساب بين صخور الحياة. بعيدًا عن الألقاب والأضواء، تشعّ روحه المتواضعة بسكينة الحكمة ووهج الإيمان. هو القائد الذي لم يُصنَع من بهرجة المناصب بل من عمق التجربة وصدق الرسالة.
حين يتحدث، تهدأ الضوضاء، وتُصغي القلوب قبل الآذان، لأن كلماته ليست مجرد عبارات؛ بل همسات من ضمير الزمن وخلاصة عِبر الحياة. ناقدًا نفسه بجرأة المحب، متفهمًا الآخر بوعي الحكيم، يبقى حاضرًا بابتسامته الهادئة وروحه المرحة التي تفيض تواضعًا وتسامحًا.
هو عاشق للأدب والتاريخ، يطوي بين دفتي كتابه أزمانًا وبلدانًا، كمن يُعيد رسم دروبٍ إلى الحكمة. يجد في أحضان الطبيعة أمانه وسكينته، يراقب شروق الشمس فوق جبال المختارة والباروك كمن يتلو صلاة صامتة، وينصت لرسائل الريح بين أشجار الكروم، مستلهمًا منها سر الخلق وجمال الصبر.
هو ليس مجرد وجه روحي، بل نبضٌ حيّ من الحكمة، يتسلل بخفةٍ إلى أعماق النفوس، فتزهر قلوب أحبته خيرًا وتسامحًا.
أبيات تنبض بروح الإنسانية
لقد كان للشعر حضورٌ متألق في مسيرة الشيخ سامي أبي المنى، ذلك الحضور الذي تجاوز الكلمات ليصبح رسالة سامية تُحاكي الروح الإنسانية وتعانق القيم التوحيدية والوطنية. ففي مناسبات التضامن الروحي والشراكة الوطنية التي جمعت قلوب أبناء الوطن على امتداد ترابه، كان الشعر هو الصوت الذي يحمل همّ الحوار وعمق الرؤية.
قصائد الشيخ أبي المنى لم تكن مجرد أبيات متناغمة أو كلمات منمقة؛ بل كانت مرآة لروح تحمل رسالة التوحيد والانفتاح، ولرؤية تتطلع إلى وطن يعلو فيه الحوار فوق الخلافات، ويترسخ فيه السلام من خلال التفاعل الإنساني الراقي. كانت كلماته تخترق الحواجز، تُشعل القلوب بنور الأمل، وتدعو إلى الوحدة الوطنية بروح إنسانية مفعمة بالنقاء.
وهذه أبيات تشهد على عمق التزامه:
رباطـةُ الجأشِ تُثنينـي عن الغضَبِ
وشيمتي ?للطفُ والإفــراطُ في الأدبِ
من زاد معتقدي غذّيـتُ أوردتـي
ورحتُ أَسقي دمـي من حكمـة الكتبِ
وحفظُ أهلـي وأخوانـي يُحاصرُنـي
وحبُّهم في دمـي مهمـا علت رُتَبي
إن بادلونـي بذات الحبِّ أسعدَنــي
وإن تخلَّـوا جمعتُ الحبَّ في قِرَبــي
وإن بدتْ ليَ منهـم غُربـةٌ وجَفَـا
أصلحتُ نفسي بما فيهـا من العطَبِ
وهذه أبيات من قصيدة أخرى توحي بعمق رسالته:
أيا أخي، كلُّنـا في اللهِ، يجمعُنـا
سرُّ الحياةِ، وما يَعنيـكَ يَعنيني
إن كان وجهُك بالإيمـانِ مختلِفاً
فالعقلُ، حقّاً، بما يُوصيكَ يُوصيني
العقلُ مِيزتُنــا، لِمْ لا نُقدِّسُه!
أُعطيكَ من فيضِه نوراً وتُعطيني
والحقُّ قِبلتُنـا، بالعقـلِ نُدرِكُه
لِمْ لا يُوحِّدُنا فـوق التلاويـنِ!
معاً نعيشُ، معـاً نبني لنا وطناً
يَحميكَ حُبّي، وحبٌّ منك يَحميني
اختزلت قصائده الرسالة الحوارية بحسٍ شعري رفيع، لتصبح شاهدة على التزامه العميق بمبادئ التآخي والسلام. ولم يكن الشعر بالنسبة إليه مجرد أداة للتعبير، بل كان وسيلة لبناء جسور الحوار بين مختلف أطياف المجتمع، ووسيلة لإيصال قيم المحبة والتسامح التي حملها في قلبه ونشرها في مسيرته.
لقد منح الشيخ سامي أبي المنى الكلمة دورها الحقيقي كقوة بنّاءة تسعى لتوحيد القلوب، وشكّل شعره نبعًا صافياً يستلهم منه الجميع قيم العطاء والمحبة. إنها كلمات تحمل عبق الإنسانية، ورؤية تنبض بالإيمان بوطن يظل فيه التنوع مصدر قوة، والشراكة الوطنية عنوان للسلام الدائم.
صوت الحكمة في زمن الأزمات
في ظل التحديات التي تواجه لبنان، من أزمات اقتصادية إلى انقسامات سياسية، يبقى سماحة الشيخ سامي أبي المنى صوت العقل والحكمة. في زمن تصاعد الطائفية، يدعو إلى الوحدة الوطنية.
يرى سماحته أن القيادة ليست مجرد سلطة، بل مسؤولية أخلاقية وإنسانية. ومن هذا المنطلق، لا يتوقف عن الدعوة إلى الإصلاح والحوار، مؤمنًا بأن النهوض بالوطن يتطلب رؤية موحدة تنبثق من إرادة الشعب.
سماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى هو رمز مضيء للتسامح والمحبة، وقائد روحي يجمع بين الحكمة والإنسانية. في كل موقف يتخذه، يُثبت أنه رجل يكتب تاريخه بيده، متجذرًا في إرث الجبل، ومتطلعًا إلى أفق وطني وإنساني أوسع.
تأملات في الفكر والثقافة الروحية
الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان، له العديد من المؤلفات التي تسلط الضوء على الجوانب الثقافية والدينية والاجتماعية للطائفة. من أبرز أعماله:
• “المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز: الخصوصية والاندماج”: يستعرض هذا الكتاب المظاهر الثقافية والاجتماعية للطائفة، ويربطها بتاريخ المذهب ومعتقداته، مسلطًا الضوء على التوازن بين الخصوصية الثقافية والاندماج في المجتمع الأوسع.
• “الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان: رؤية الموحدين الدروز”: يتناول هذا الكتاب رؤية الموحدين الدروز للحوار الإسلامي المسيحي في لبنان، ويبرز أهمية الحوار في تعزيز التفاهم والتعايش بين الطوائف المختلفة.
• “يا أمّتي”: ديوان شعري يعكس من خلاله الشيخ سامي أبي المنى مشاعره الوطنية والإنسانية، ويدعو إلى الوحدة والتآخي بين أبناء الأمة.
• “قصائد التضامن الروحي”: مجموعة من القصائد التي ألقيت في مناسبات التضامن الروحي على مدى عشر سنوات، وهي تختصر معاني الرؤية الحوارية التي تضمنت معاني المحبة والرحمة والأخوّة.
• “دموع الرضا”: مجموعة من القصائد والتأملات الروحية التي تعبر عن الرضا والتسليم بقضاء الله، وتحث على الصبر والإيمان في مواجهة التحديات، والتي جاءت بمناسبة مرض ابنه الشاب “ريبال” ووفاته بعمر الخامسة والعشرين.
تُعد هذه المؤلفات مرجعًا مهمًا لفهم ثقافة الموحدين الدروز ومعتقداتهم ورؤيتهم الحوارية واستعدادهم الدائم للعيش المشترك والتفاعل الإيجابي، وتساهم في تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الطوائف والمجتمعات.