شظايا جاهين وحدّاد في بكائيات “على اسم مصر”
فيما يمضي النيل قدمًا في طريقه، محمّلًا بذاكرة مصر الخصيبة
المصّاعدة أصداؤها في الهواء مع رائحة الطمي، فإنه يعكس في صفحته صورًا
مقلوبة، فوجه الحاضر البائس حين يرنو مشدوهًا إلى مرآة النهر لا يكاد يرى
غير الماضي المجلوّ الضاحك، الهازئ بأيامنا الغارقة في قاع دامس.
على ضفتي النهر، في عهود مجده وعنفوانه، شدا اثنان من أبرز شعراء
العامية في مصر قصائدهما الناصعة، التي افتتن بها إله النيل “حابي” جالب
السعادة، بالقدر ذاته الذي سَحَرَتْ به أبناءَ الشعب في المدن والقرى، من
شمال البلاد لجنوبها، فَجَرَتْ كلماتُ الشاعرين على ألسنة العاديين
والبسطاء بسلاسة مياه النهر الواهبة للحياة الطازجة.
استحق فؤاد حداد (1928-1985) أن يكون والد شعراء العامية الرائد، ومسحّراتي الوطن الموقظ للنيام والمستيقظين، وراسم خريطة الآمال والأحلام في سنوات البناء والسطوع، قبل الإفاقة على كابوس هزيمة يونيو 1967، الذي استدعى كلمات شعرية أخرى دامية، بدون فقدان الإيمان بقيمة الوطن وقدرته على النهوض من جديد.
كذلك حال صلاح جاهين (1930-1986)، مجدد قصيدة العامية المصرية ومفجّر مساراتها وطرائقها المبتكرة في “الرباعيات” الفذة و”على اسم مصر”، وراسم صورة الوطن المبهجة بالكلمات تارة، وبالريشة والألوان والكاريكاتير تارة، في مرحلة الإشراقات والتطلعات والطموحات، التي اختتمت بمفاجأة الانتكاسة القاسية، الكاسرة للقلوب والنفوس.
في تفاؤلهما، تغنى الشاعران بالوطن الكبير كأرض وسماء وقبلة صلاة ومنظومة إنجازات ومعجزات، ونافذة مفتوحة على الأمل والحلم والمستقبل، وفي أوج تشاؤمهما بعد استشعارهما قتامة المشهد، لم يهتز اسم مصر بمفرداته ومقوّماته الحضارية في وجدانهما وضميرهما ومخيلتهما كمعدن نفيس مشع من تلقاء ذاته في الليلة الظلماء التي يُفتقد فيها البدر.
في قصائد حداد وجاهين، ورسوم الأخير، هناك دائمًا إكبار وإجلال للوطن، القيمة المطلقة التي لا يمكن الكفر بها مهما بدت الظروف الطارئة غير مواتية، فهناك تاريخ ممتد وحاضر قريب يدافعان عن صورة الوطن الإيجابية، وهناك من المنجزات الملموسة في سائر المجالات ما لا يمكن نكرانه وتجاهله، ففؤاد حداد يصف الآخر كأنما يقصد ذاته “لولاكي يا مصر كان قلبه رقد هالك”، وحتى بعد الهزيمة المدوية يظل صلاح جاهين يردد “أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء، باحبها وهي مالكة الأرض شـرق وغـرب، وباحـبها وهي مرمية جريحة حرب”.
بعيون اللحظة الراهنة، كيف يرى المبدعون التشكيليون المعاصرون صورة الواقع المصري وتجليات الحاضر في لوحاتهم الفنية المستوحاة من قصائد فؤاد حداد وصلاح جاهين؟ هذا ما تجيب عنه عشرات الأعمال المعروضة حاليًا في غاليري “ضي” في القاهرة، التي تجسّد تصورات نخبة من التشكيليين البارزين وقراءاتهم البصرية الموازية لأشعار جاهين وحداد، خصوصًا قصائدهم المتغنية في عشق الوطن.
لا يمكن إهدار العامل الزمني بطبيعة الحال، فحداد وجاهين كتبا عن مصر أخرى غير التي يعرفها التشكيليون المعاصرون، الذين حاولوا رسم قصائد الشاعرين المحلقة في فضاء الوطن الأكبر من جهة، كما أنهم صوّروا بالضرورة من جهة أخرى ملامح التراجع والانحدار والتقازم في وطنهم الضيق الآني.
في قصائد حداد وجاهين، وفي رسوم الأخير الصحافية والكاريكاتيرية، لم يخل الأمر بالتأكيد من انتقاد أحوال البلاد والعباد والتهكم على سطوة السلطة وسياسات الحكومة والسخرية من إفرازات الواقع، فهذا من دور الفن الإصلاحي الإرشادي وفق وجهة نظرهما، لكن في إطار رؤية عامة لديهما تقدس معنى الوطن، وتبجّل خطاه وتوجهاته المحورية نحو التحرر والاستغناء والسيادة والقيادة والبناء والتفوق الثقافي والإشعاع الحضاري وغيرها من شواهد الرفعة والنهضة لمصر المحروسة، المرفوعة الرأس دائمًا في سائر الميادين وشتى المحافل. من فرط تبجيل فؤاد حداد لمفهومَي الوطن والوطنية، فإن المصري نفسه يبدو لديه كأنه من طينة أخرى: “مسحّراتي في الطريق الصعب/ منقّراطي وكل دقة بقلب/ إحنا الشعب/ المصري أول سيرة إنسان/ إحنا من صخر العزيق والصبر/ أحب الوطن من غير حدود/ وأنقّي قطني من كل دود/ وآخد في حضني كل العيال”.
بالمثل، تبدو رؤية جاهين المدللة لمصر وللمصريين: “على اسم مصر، المصري باشا بشواربه اللي ما عرفوا الذل، ومصـر فوق في الفراندة واسمها جولييت”، وتتعاظم ثيمة الوطن وقيمته وتعلو منزلته لدى المثقف والمبدع والفنان أكثر من الإنسان العادي وفق جاهين: “الكاتب المصري ذاته مندمج في مقال/ ومصر قدّامه أكتر كلمة مقريّة/ قريتها من قبل ما اكتب اسمي بإيديّا/ ورسمتها في الخيال على أبدع الأشكال”.
ومن رؤية حداد وجاهين، إلى عوالم التشكيليين المعاصرين، الذين استلهموا قصائدهما من أجل صياغة لوحاتهم الفنية الجديدة المعبّرة عن وطنين: وطن الشاعرين الكبير، ووطن اللحظة الراهنة المتضائل.
في أعمال الفنان السيد عبده سليم (67 عامًا)، في معرض البكائيات الجماعية “على اسم مصر”، تتجلى الرموز والأيقونات الفرعونية وقد تخلت عن كمالها لتتسم بتشويه وتحريف متعمدين، فمفردات التراث الشعبي الدالة على خصوبة ومجد زائلين تعكس حاضرًا خريفيًّا تساقطت أوراق أشجاره وذبلت وروده، وصار رجاله ونساؤه من صنّاع الحضارة برؤوس حيوانات أحيانًا من فرط التحجر والانصياع والانقياد، وتساوى البشر والمومياوات في توابيت الحياة الخانقة.
وتأتي طيور الفنان صلاح المليجي (62 عامًا)، وعرائسه، وألعابه الطفولية، منزوعة البهجة، بمذاق السكر المُرّ، والبكارة الموءودة في مهدها، فالعزلة صارت بديل الناس، والسكون هو وريث الحركة والرفرفة، والحلم لم يعد سوى قطرات جافة كحفر طباعي بالأبيض والأسود في أعماق إنسانية مطموسة.
ويتحول الإنسان المعاصر لدى التشكيلي محمد الناصر (62 عامًا) إلى مجرد فزاعة طيور في الحقول “خيال مآتة”، ولا يقوى على إخافة أحد إلا ذاته المنفية إلى زمن آخر، ويسيطر العطش على المشهد في ظل غياب النهر، وتهشُّم أواني الشرب الفخارية الأصيلة، وهكذا لا يبقى من ملامح الوطن غير تجاعيد وخرافات وهموم.
ومن زهور الربيع التي تغنى بها صلاح جاهين، و”الجو البديع”، لا يجد الفنان عماد عبد الوهاب (43 عامًا) في الأرض البور التي تحيط به الآن غير جفاف الألوان وشحوبها، وقتامة الأفق، وينفرط عقد الأزهار مع هبوب أول زوبعة، وتتخلخل العلاقة بين الذات والآخر في عالم ممزق غير قابل للترميم.
وفي مجموعة من البورتريهات لحدّاد وجاهين بألوان الفنانين: رمضان عبد المعتمد، لينا أسامة، حسني أبو بكر، دينا طريف، عبير فوزي، هاني كمال، عبير السيد، تجسدت ملامح الشاعرين وعبارات من قصائدهما في تكوينات تشكيلية نابضة بالأسى والانطفاء والإحساس بالفجيعة الجاثمة على الصدور، فجاهين يضع يده على خده متحسرًا شاكيًا، وحدّاد يرنو شاردًا إلى المجهول، وحروفه تنطق بالمأساة والضجيج بغير طحن: “بقينا في آخر الدنيا.. والزمبلك داير على الفاضي”.
عشرات من الأعمال الأخرى لفنانين وفنانات من أجيال مختلفة، تُكمل دائرة البكائيات الجماعية على اسم مصر، من وحي قصائد الشاعرين، وأصداء الناي الحزين المشروخ بفعل مستجدات العصر، فعصافير نهى إلهامي صريعة وبلا أجنحة، وفلاحو محمد التهامي يحصدون السراب، وشخوص عمر عبد اللطيف يفتقدون وجوههم، وأشباح أشرف مهدي تطفئ الشموع، ودراويش نهى المفتي تخطفهم الندّاهة والدوامة، وأفاعي إيمان الدمك تبث سمومها وجحيمها في الفراغ. معرض القراءات البصرية لقصائد فؤاد حداد وصلاح جاهين، صرخات تشكيلية حُرّة، لا تسترجع الأجواء المنقضية، بقدر ما تعرّي تفاصيل الأزمة الحالية.
شريف الشافعي / المدن