السياسة الأميركية في لبنان: نمهل ولا نهمل
نجح الرئيس سعد الحريري، حتّى الآن، بالمرور ما بين الألغام. تتيح ظروف مناسبة له الهروب مراراً من مواجهات محلية وخارجية، فيجنح إلى التسوية. يتذرع بضآلة قدرته على مقاومة الموازين الداخلية، وبالغياب الكامل للدعم الخارجي، ليبرر أمام من يراجعه عاتباً أو مستفسراً، أنه مضطر للقتال باللحم الحيّ.. ولا خيار أمامه غير تلاوة التسويات، حرصاً على البقاء.
الدول الثلاث والغاضب الصامت
ضياع الدعم الأميركي، وغياب التأثير السعودي، دفع الحريري إلى التلطّي خلف قوى أخرى. لجأ إلى روسيا وفرنسا، مقابل ارتكاز حزب الله والتيار الوطني الحرّ على إيران وروسيا معاً، وربطاً بتقاطع المصالح مع الفرنسيين. أظهرت التسوية الحكومية الأخيرة، بروز دور هذه الدول الثلاث مقابل غياب شبه تام للأميركيين والسعوديين.
يوم تشكّلت الحكومة، حاول أفرقاء كثر السؤال عن حقيقة الموقف الأميركي منها. تضاربت المعطيات. البعض وجد جواباً لا يدلّ على اهتمام أو اكتراث. والبعض الآخر وجد أن الأميركيين اعتمدوا الضوء الأصفر: لا اعتراض ولا تشجيع. لكن ما بعد الأسئلة، برزت مواقف أميركية وأوروبية متعددة، تجلّت في “الغضب”، الذي بقي مكتوماً، من قبل الأميركيين والبريطانيين، بسبب تلزيم روسيا خزانات النفط في طرابلس. هنا أيضاً يظهر التضارب. إذ أن البعض يعتقد أن لا إمكانية لروسيا بالحصول على هذه التلزيمات من دون رضى أميركي، ولو بشكل غير مباشر، خصوصاً أن الظاهر هو التسليم الأميركي لروسيا بالإمساك بزمام الأمور بسوريا، وتالياً بلبنان، مقابل تحجيم النفوذ الإيراني.
ووسط هذا الضياع الكامل، ومع هذا الكلام عن التسليم الأميركي
للروس، ثمة من يكرر في أوساط الأميركيين “إنّ واشنطن لن تتخلى عن لبنان”،
وإنْ انسحبت من سوريا، خصوصاً وأنها تعمل على تشييد مبنى ضخم لسفارتها، على
البحر الأبيض المتوسط، والذي سيكون عبارة عن قاعدة إستخبارية كبيرة جداً.
هكذا، وفي لحظة الضياع ، برز موقف السفيرة الأميركية اليزابيت ريتشارد من
السراي الحكومي، بعد لقائها الحريري. وهذا مثّل تحوّلاً صريحاً في الموقف
الأميركي، أو على الأقل خروجاً عن الغضب الصامت.
المراقبة اللصيقة
كلام
السفيرة الاميركية غير مسبوق، حتّى أيام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، والتي
كان يطلق عليها توصيف “حكومة حزب الله”. قالت ريتشارد: “لقد كنت صريحة مع
رئيس الوزراء، حول قلق الولايات المتحدة بشأن الدور المتنامي في الحكومة
لمنظمة، لا تزال تحتفظ بميليشيا لا تخضع لسيطرة الحكومة، وتستمر في اتخاذ
قراراتها الخاصة بالأمن القومي. وهي قرارات تعرض بقية البلاد للخطر. وهي
تستمر في خرق سياسة النأي بالنفس، التي تعتمدها الحكومة، من خلال مشاركتها
في نزاع مسلح في ثلاث دول أخرى على الأقل. وهذا الوضع لا يساعد على
الاستقرار، بل يشكل زعزعة له بشكل اساسي.”
وإلى جانب هذا الموقف، كان ثمة موقف آخر، يتعلّق بالحرص على
استمرار التعاون وتقديم الدعم. لكن السياق يوحي وكأن الأميركيين يضعون
المساعدات في خانة تحقيق بعض الشروط. حسب المعلومات فإن الأميركيين حاولوا
تأخير تشكيل الحكومة، وعدم إخراجها بهذا الشكل، لكن الحريري لم يلتزم بذلك.
الآن حان وقت التعاطي بالنسبة إليهم وفق قواعد جديدة، تنطلق من مبدأ
“الإمهال وعدم الإهمال”. وهذه ستكون عبارة عن فترة مراقبة لعمل الحكومة،
مستمرة مع ضغوط مكثّفة أميركية وخليجية.
الآتي أصعب وأشدّ
تؤكد
مصادر متابعة، أن الأميركيين يضعون برنامج عمل للتعاطي مع لبنان، سيتم
اللجوء إليه بشكل مرحلي، وعند كل استحقاق بمقتضياته، ما يؤشر الى أن الضغط
سيزداد. صحيح أن كل الاستحقاقات السابقة أظهرت سيطرة حزب الله المطلقة على
البلد، وقدرته على التحكّم بكل مفاصله، إلا أن بعض الأميركيين يشيرون إلى
أن التعاطي سيختلف، وسيكتشف البعض أن السكوت عن تمادي الحزب في الدخول إلى
كل الملفات اللبنانية، سيرتدّ سلباً عليه في مرحلة لاحقة. يندرج الكلام حتى
الآن في خانة التهديد. لكن هناك من يشير إلى أن النظرة الأميركية السابقة
حول الوضع في لبنان، والحرص على بقائه مستقراً، ستتغير في المرحلة المقبلة،
لأن التجاذب الدولي والإقليمي سينتقل إلى الساحة اللبنانية، ما يفرض
تغييراً في النظرة والمعاملة.
الضغوط الأميركية ستبرز في موضوعين مهمين: قضة ترسيم الحدود، وملف الصواريخ الدقيقة والنوعية لحزب الله، والتي تُعتبر كاسرة للتوازن، ويضاف إليهما مسائل أخرى، كمواجهة التطبيع مع النظام السوري، وتسعير ملف اللاجئين السوريين. وهناك من يشير إلى احتمال تصعيد الأمور في مرحلة ما بعد الإنتخابات الإسرائيلية، لا سيما وأن الإسرائيليين يتشددون في رفضهم لامتلاك حزب الله الصواريخ الدقيقة والموجهة، البعيدة المدى. ما قد يفرض عليهم القيام بعمليات عسكرية لتدمير مخازن هذه الصواريخ. هذه التهديدات ستترافق مع توجه سياسي أميركي لفرض تنازلات على لبنان وإيران، تجنباً للوقوع عن حافة الهاوية.
المدن/ منير الربيع