لقاء باريس والتحوّل الدولي: تأييد الانتفاضة.. ولا تدخّل
تتغير النظرة الدولية تجاه لبنان شيئاً فشيئاً. ما تقدّم منذ
أكثر من شهر في الساحات لم يكن متوقعاً بالنسبة إلى المجتمع الدولي. المشهد
في بيروت والمناطق المختلفة، بالعيون الدولية، يبدو “مشرقاً” على حدّ
تعبير مسؤولين دوليين، خصوصاً أن الانتفاضة على الواقع القائم، وعلى اختلال
التوازن، وعلى الفساد والسمسرات وسياسة المحاور، قد بدأت تحقق نتائج
إيجابية بكل مدنية وسلمية. يقدّم لبنان نموذجاً عربياً وشرق أوسطياً
للتغيير السلمي، بخلاف ما سارت عليه رياح الربيع العربي التي تحولت إلى
العنف وغرقت بالتطرف والدماء.
الثورة تثبت نفسها
عندما
بدأت الثورة لم يكن أي من القوى المحلية أو الخارجية تعيرها هذا الاهتمام،
أو تراهن عليه. صحيح أن التعاطف معه كان قائماً، والمراقبة كانت حذرة،
بانتظار اتضاح وجهة الأمور ومساراتها. القوى السياسية لم تكن مقتنعة بما
يمكن أن يحققه المتظاهرون. ولذلك، كانت هناك حال استخفاف ولا مبالاة،
وتضييع الوقت للحفاظ على الحكومة. بعدها بدأ التدرج في “تعديل حكومي” لم
يتحقق، ولم يوافق عليه الشارع. سقطت الحكومة وطالب الشارع بحكومة تكنوقراط.
ما يعني المطالبة بتغيير حقيقي بالوجوه والسياسات. بموازاة هذا، كان
الموقف الدولي واضحاً في تعاطفه مع الانتفاضة اللبنانية، مشدداً على توفير
الحماية للمدنيين من أي اعتداء.
وهذا ما تكرس على الأرض في أداء الجيش والقوى الأمنية. بُعيد
إسقاط الحكومة ومنع عقد جلسة مجلس النواب في المرة الأولى، بدأت النظرة
تتغير. والأكيد أنه في هذه الحالات تبدأ الدول في إعادة قراءتها وفق
المتغيرات. ووجدت أن الحراك جدّي وقادر على تحقيق التغيير بكل سلمية، وإن
ببطء وتدرّج.. ولا بأس من دعم هذه التحركات، لأن الرهان على السياسيين
لطالما فشل، خصوصاً فيما يتعلق بتقديم المساعدات وتنفيذ الإصلاحات.
إشادة بالشباب اللبناني والجيش
بواقعية
أكثر، أرادت الدول التدخل بشكل أو بآخر متكئة على الوقائع الجديدة لتصحيح
الاختلال في موازين القوى، وفي تجاوز الدستور والمؤسسات. وبالطبع، هناك
اعتراض على التحاق لبنان بالمحور الإيراني. وهذا ما يدفع اللبنانيون ثمنه
اليوم بمنع المساعدات وبأزمة اقتصادية خانقة بدأت تنحو بالبلاد نحو
الانهيار.
الاستعصاء الذي استمر لأيام، دفع الفرنسيين إلى التحرك بإيفاد كريستوف فارنو إلى بيروت ولقاء المسؤولين. حصيلة لقاءاته بحثها مع مسؤول أميركي هو ديفيد شينكر ومسؤول بريطاني. وتكشف معلومات “المدن” أن اللقاء الثلاثي الذي عقد في العاصمة الفرنسية لم يخلص إلى نتائج حاسمة، أو واضحة بخصوص التدخل في الأزمة اللبنانية ومعالجتها. وكان هناك إشادة بالشباب اللبناني الذي انتفض، وتمكن من تحقيق أهداف كثيرة. وتخلص النظرة الثلاثية إلى أن هناك إمكانية للتغيير بفعل هذه الحركة الشعبية، شرط توفير الحماية لها.
وحسب المعلومات، لم تتقدم أي من الدول بأي مبادرة في هذه
المرحلة، وترك المجال للشباب اللبناني ليعبر عن ما يريده وما يطرحه من
مشاريع وبرامج التغييرية، مقابل توفير كل سبل الحماية له. وهذا ما يتوضح في
الإلحاح الدولي المتكرر، وخصوصاً الأميركي، على حماية المتظاهرين ومنع
الاعتداء عليهم، وصولاً إلى حد التلويح بوقف المساعدات العسكرية، إذا ما
وقع أي اعتداء على المتظاهرين. هذا الأمر يفسره بعض اللبنانيين بأنه تدخل
أميركي له بعد سياسي يتصل بتطويق حزب الله ورئيس الجمهورية. ويرى فيه البعض
سبباً لسوء في العلاقة بين الحزب وعون وباسيل مع قائد الجيش. والانزعاج
انسحب أيضاً على رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي اعتبر ان الجيش لن يسمح
بقطع الطرقات. وظن أن جلسة مجلس النواب ستنعقد.
تأييد المطالب واستياء روسي
يعتبر
البعض أن المجتمع الدولي كان يضع الأجهزة الأمنية تحت المراقبة الدقيقة،
في أدائها مع المتظاهرين. وهذا يدل ضمناً أن الرهان الدولي على الانتفاضة
يكبر ويتنامى. فيما يعتبر حزب الله وعون أن ما يجري هو مؤامرة اميركية،
وأنها هي التي منعت بعض الكتل النيابية من المشاركة في الجلسة ومقاطعتها،
لا سيما كتلة المستقبل، القوات، والاشتراكي.
تؤكد المعلومات أن الاجتماع الثلاثي خلص إلى نقطة واحدة أساسية، وهي ترك الحرية للشعب اللبناني في ما يريده، مع عدم التدخل بالتفاصيل السياسية، والتمسك بشرط أن تكون أي حكومة ستولد ملبية لتطلعات اللبنانيين. أيضاً، هذا يعني ضمناً دعم مطالب الحراك بالتغيير. والموقف الدولي هذا استفز موسكو، التي تتحرك بفاعلية للدفاع عن عون وحزب الله، وتحرص على “العهد” وتتمسك بحكومة يتمثل فيها حزب الله بشكل مباشر. وقد تواصلت موسكو مع باريس بهذا الخصوص. وإذا كانت باريس تؤيد حكومة تضم مختلف الكتل وتتفهم وضع حزب الله وموقعه وتمثيله بشخصيات غير حزبية وغير مستفزة، إلا أن هذا الأمر على ما يبدو مرفوض من الأميركيين والبريطانيين. الذين يفضلون ترك الصراع مفتوحاً بين الشعب اللبناني والقوى السياسية.
يفترض حالياً بهذا الموقف الدولي أن يمنح المزيد من الفرص للانتفاضة، التي ستكون قادرة على تسجيل المزيد من النقاط لصالحها وإن ببطء. كما بإمكان هذه الانتفاضة الاستثمار بتصدع القوى السياسية وتنابذها فيما بينها وتوسع خلافاتها، كما هو الحال اليوم بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر.
بالمحصلة، يُنظر إلى هذا الحراك على أنه سيؤسس لتغيير جذري بالتركيبة اللبنانية وبآلية الإدارة السياسية. ووفق هذه النظرة، لن تصل أي مساعدات دولية إلى لبنان قبل تحقيق هذا التغيير.
منير الربيع – المدن