زهير هواري لـ”المدن”:هذا جيل يتمرّد على غيتوات الدولة الغنائمية
الدكتور زهير هواري، أكاديمي وباحث وروائي، صدرت له أخيراً رواية “الثعلب أشعب”(دار الفارابي)، هو من الناشطين في العمل الاجتماعي والسياسي، واستشاري في لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وله وجهة نظره في الحراك اللبناني… هنا حوار معه.
– كيف تقرأ الثورة، أو الحراك، وما أدخلته من تعديلات على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي؟
* دعني أصف ما حدث بأنه أكبر من حراك وأقل من ثورة. فالحراك
قد يكون مرتبطاً بقطاع محدد من القطاعات أو منطقة ما، عمال وفلاحون
وموظفون، والثورة هي فعل فكري مخطط ومبرمج، له قواه المؤطرة في تنظيمات
ومواقع، وله قواه وبرنامجه المحدد الذي يُعمل بموجبه وصولاً إلى استلام
الحكم وإزاحة ما هو قائم من سلطات. وهذه غير متوافرة حتى الآن في انتفاضتنا
اللبنانية. بهذا المعنى أعتقد أن التوصيف الأدق هو الانتفاضة التي بدأت
على نحو يشابه العفوية، بعدما فاض بها الكيل، فهبت إلى النزول للشوارع
والساحات العامة منذ خمسين يوماً وأكثر. بدأت بالاقتصاد وتوسعت إلى السياسة
والقضاء وغيرهما. ميزة هذه الانتفاضة أنها تشمل قطاعات واسعة من
اللبنانيين، بمن فيها فئات كانت حتى الأمس القريب خارج دائرة التصنيف الذي
لطالما اعتمدناه كيساريين واستعملنا في توصيفه تعبيراً شائعاً هو “الفئات
الشعبية أو محدودة الدخل”. أهمية الانتفاضة أنها جذبت إلى مدارها الأطباء،
المهندسين، المحامين، الصناعيين، الحرفيين، والتجار وأرباب مؤسسات أقفلت أو
هي مهددة بالاقفال، إلى جانب العمال والموظفين، ومن نقول عنهم أنهم من
العمال وصغار الكسَبة. كما أنها تجاوزت منطقة معينة إلى كل المناطق
اللبنانية بلا استثناء، مع نسب مشاركة تتفاوت حجماً.
أما التعديلات التي أحدثتها
فأبدأها بالمشهد السياسي. لقد باتت معه كل مكونات السلطة متهمة عن حق بأنها
قادت البلاد إلى الخراب والإفلاس. ولعل شعار “كلن يعني كلن” هو أصدق تعبير
عن التكافل والتضامن بين الأقطاب. لقد إنزوت الطبقة السياسية بمختلف
تشكيلاتها، إلى حد ما عن المشهد العام. واحتل الشاشات مواطنون عاديون قدموا
مضابط إتهامية مؤثرة عن معاناتهم من نظام المحاصصة السياسي والاقتصادي
والاعلامي. كل الذين ظهروا في الشاشات لم يتحدثوا عن وجعهم بوصفه حالات
مفردة خاصة بهم فقط، بل بما هو محصلة لمعاناة عامة شملت فئات لم يتسن سماع
أنينها قبلاً، أو أنه كان خافتاً إلى حد كبير. وفي المشهد السياسي ألاحظ
كما الكثيرين، أن الأمر لم يقتصر على نزع الشرعية من الممسكين بزمام
السلطة، ومن كانوا معتبرين أشباه آلهة أو مقدسين أو معصومين، وممثليهم في
الحكومة وزراء متصالحين ومختلفين على الصفقات والحصص، بل المجلس النيابي
أيضاً بما يوصف بأنه الإطار الأوسع للحياة السياسية ومنح المؤسسات الشرعية.
من هنا جاءت المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة مسبوقة بإعداد قانون انتخابي
تمثيلي، ما يصِم ما جرى من انتخابات بأنها مزورة. والتزوير لا ينحصر في
التلاعب بما في داخل صناديق الاقتراع، أو الدولارات التي كانت تدفع لفئات
من الناخبين، بل في القوانين التي تجري بموجبها الانتخابات أصلاً، ونحن
نعلم أن نسبة المقاطعة في الانتخابات الأخيرة كانت 51%. أيضاً ستترك هذه
الانتفاضة بصماتها على الأحزاب من دون شك. فمعظم أحزاب السلطة لجأت إلى
“التقية” والصمت ثم البلطجة العارية، بينما إنكفأ بعضها إلى داخله يراجع ما
جنته يداه وكيف يدير أموره
أما في المشهد الاجتماعي فقد تميزت الانتفاضة من دون شك بحضور المرأة
والفتاة اللبنانية الطاغي، وتجاوزها المطالب النسوية المعتادة إلى المواقف
السياسية الضاغطة، إضافة إلى نضالها لكبح محاولات جر البلاد إلى الحرب
الأهلية مجدداً. كانت النساء نبض التظاهرات والميادين، وأثبتن أن عزلهن
وعُزلتهن عن الحياة السياسية والاجتماعية لم يعد ممكناً بعد الآن، وأن
مطالبتهن بالكوتا النسائية في المؤسسات السياسية والإدارية ينطلق من ثقل
حضورها في حياتنا المهنية والعلمية والتعليمية والعامة، وهو ثقل بخفة
الفراشة ورونقها. أيضاً في الجانب الاجتماعي لاحظت كما سواي إنضواء فئات
عليا على اختلاف مكوناتها في صميم الفعل الاحتجاجي. ويبقى بالنسبة لي
معبّراً حضور الحركة الطالبية بصخبها، والتي شملت طلاب الجامعات والثانويات
والمدارس، وهذا يجب أن يسجل بوضوح بعدما صادرت السلطوية السياسية
والتعليمية والإدارية أصوات هذه الشريحة الرئيسية.
أما على صعيد الثقافة فقد ذوت تلك المنوعات التي طغت على المشهد العام لسنوات، عندما باتت الأنشطة الفنية والاعلامية محصورة في زوجات المسؤولين اللواتي ينظمن المهرجانات وفي حضورهن البرامج الفنية الهابطة. بالطبع لا يمكن القول إن الانتفاضة أنتجت ما تختزنه من أعمال روائية وشعرية وأفلام وغيرها، لكنها على الأقل قدمت المجتمع اللبناني على حقيقته، ما سيتيح للمبدعين لاحقاً أن يغرفوا من هذا المعين. ولعل الإرهاصات الأولى هي التي نجدها على جدران ساحتى الشهداء ورياض الصلح من أعمال ومجسمات وغرافيتي وحروفية، وندوات حوار حول قضايا أساسية كانت خارج نطاق التداول الثقافي. أيضاً تغيرت وظيفة الساحات، التي أرادها مصمموها أن تكون حكراً على ذوي الثراء من شركات وبنوك ومؤسسات، فإذا بها مساحات مفتوحة لكل الناس ومن مختلف الطبقات والمشارب، بمن فيهم باعة القهوة والسجائر والكعك وغيرهم من فئات هامشية. لقد استعاد اللبنانيون هذه المساحات باعتبارها البلد الذي كان يضمهم قبل الحرب الأهلية عام 1975، وعادوا إليها باحتفاليات رائعة في يومياتهم كأماكن تسلية و”سيران”، ثم كانت ذروتها في عرض الاستقلال المدني والشعبي.
حاوره : محمد حجيري