تجنّب الفتنة السنية الشيعية: مرجعية للإنهيار وخيار الإنتحار
كتب منيرالربيع في المدن
كان اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005 الضربة الأولى لتغيير جذري في لبنان، والضربة الثالثة في سياق التغييرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط (الأولى اجتياح العراق، والثانية تغييب ياسر عرفات).
ولايتا لبنان
جاء رفيق الحريري إلى لبنان في إطار اتساع نفوذ “السنية السياسية” في لبنان في حقبة الملك فهد بن عبد العزيز. وكانت هناك معادلة الأرض مقابل السلام في الشرق الأوسط. وشاركت في تلك المعادلة غالبية الدول العربية، بما فيها سوريا برئاسة حافظ الأسد. وشهدت تلك الحقبة توافقاً سورياً وسعودياً وأميركياً، انعكس على الساحة اللبنانية، وسمح للحريري باطلاق مشروع إعادة الإعمار، والدخول في حقبة طويلة من النمو الاقتصادي.
وسياسياً قُسّم لبنان إلى شطرين أو ولايتين في تلك الحقبة: ولاية اقتصادية – سياسية داخلية يتولاها الحريري بالتنسيق مع بعض شركاء الحكم، كنبيه بري ووليد جنبلاط ورئيس الجمهورية (الياس الهراوي آنذاك)، برعاية سورية. وولاية عسكرية – سياسية خارجية ينفذها حزب الله، كمقاومة لتحرير الشريط الحدودي الجنوبي المحتل، وتتولاها إيران بالتنسيق مع سوريا الأسد ورعايتها. وكان ذلك في حقبة انفتاح إيراني مع الرئيس محمد خاتمي.
الاستيلاء الإيراني
بدأ التغير السياسي يطرأ ما بعد أحداث 11 أيلول 2001، والحرب على الإرهاب التي بدأت في أفغانستان، ووصلت إلى العراق في العام 2003. وما بين العامين جاءت المبادرة العربية للسلام التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية ببيروت 2002، نتاجاً أساسياً لمعادلة الأرض مقابل السلام، والذهاب إلى حلّ الدولتين.
تغيّرت السياسات الأميركية، فلم تعد تكترث بتلك المبادرة، وباشرت خوض معارك الشرق الأوسط الجديد ومحاربة الإرهاب. وفي هذا الإطار بدأت عوامل ضرب السنية السياسية، والتي كانت اعتدالية من المحيط إلى الخليج.
وباغتيال ياسر عرفات سدِّدت الضربة النهائية لمبادرة قمّة بيروت. وتغيّرت موازين القوى في العراق وفي فلسطين، وظهرت أكثر فأكثر ملامح المشروع الإيراني. وتجلّ التغير بوضوح مع اغتيال رفيق الحريري، الذي أخرج الجيش السوري من لبنان، مقابل دخول استراتيجي إيراني إليه بواسطة حزب الله.
حلف الأقليات
عرف حزب الله كيف يستثمر الظروف السياسية لصالحه: راهن على ضعف خصومه، وقوته العسكرية الهائلة التي استخدمها، لترويع اللبنانيين وتطويعهم، وتقويض القرار السياسي وحصره بيده. وهو استطاع تغيير الموازين السياسية برمّتها في 7 أيام 2008، فأصبح جميع اللبنانيين مطواعين بين يديه.
وحدث ذلك في لبنان في إطار الحرب السنية – الشيعية في المنطقة كلها. حاول السنة في لبنان استمالة جانب واسع من المسحييين، وهذا ما فعله الشيعة أيضاً. وظهّرت معالم هذه الحرب المدمرة في سوريا مع اندلاع الثورة، وما نشأ في مواجهتها من تحالفات أقلوية النزعة، أصرت على ضرب السنّة واستهدافهم جميعهم، بوصفهم دواعش.
وأسهمت الحرب السنية – الشيعية، المتزامنة مع حملات دولية لمكافحة الإرهاب، في ضرب السنة سياسياً وإضعافهم، وصولاً إلى جعل حزب الله صاحب القرار السياسي المركزي والأساسي والمحدد للتوجهات السياسية وفرض المعادلات الرئاسية في لبنان. وهكذا انتخب ميشال عون رئيساً.
قدّم حزب الله الرئاسة للمسيحي القوي في لعبة معنوية مكافأة لعون على موقفه في منحه الغطاء من لبنان إلى سوريا وأبعد منهما.
ويقطف اللبنانيون اليوم نتائج هذه السياسات، وكذلك حال العرب: ضرب حل الدولتين في فلسطين واستبداله بما يسمى صفقة القرن. وضرب الحواضر الاجتماعية السنية في العراق وسوريا.
الحزب الحاكم
واقتضى إخضاع العرب السنة تخفيف حدّة الصراع السنّي – الشيعي. وهذا ما أصر عليه حزب الله لإنجاح مساهمته في ضرب الثورة السورية. وحدث ذلك مع تطويع جميع اللبنانيين، ما بعد حكومة تمام سلام، ووصولاً إلى التسوية الرئاسية.
لكن الحقبة الحالية لم تعد تحتاج إلى تخفيف التوتر السنّي – الشيعي. فحزب الله حوّل قوته مرجعية تحتاجها كل القوى السياسية، على طريقة قوة النظام السوري أيام حافظ الأسد. لذا صار الحريري يحظى بدعم غير معلن من حزب الله ليكون رئيس حكومة لا يريدها عون.
والحريري وجنبلاط وغيرهما أصبحوا على قناعة تامة بضرورة تجنب أي صدام مع حزب الله، وعدم إثارة حساسيات سنية – شيعية. وهذا دور قام به الرئيس نبيه بري. وأجاد حزب الله استثماره، بعدما صار مرجعاً وحكماً بين القوى المتصارعة، وخصوصاً بين الحريري وعون. فحزب الله لا يريد التخلي عن الأول ولا خسارة الثاني.
الديكور والانهيار
لكن تكريس حزب الله مرجعية وحاجة للجميع، ينطوي على ما يشهده لبنان في هذه المرحلة من انهيارات متشعبة بدأت تؤدي إلى تغيير جذري في بنيته الاقتصادية والاجتماعية والمالية والثقافية.
وهذا بعد اهتزاز وسقوط أبرز مرتكزاته التاريخية. بعدما كانت السنوات الخمسة عشر الماضية مرحلة تقويض ما بناه ومثّله رفيق الحريري. أما وجود عون في قصر بعبدا، وتسيّد حزب الله للواقع السياسي اللبناني، ففتحا الطريق لسقوط ركائز النموذج اللبناني، المالية والاقتصادية والثقافية، تحت ستار عبثية الصراع على الصلاحيات والتفسيرات الدستورية، التي لم تعد موجودة ولا فاعلة ولا مؤثرة.