Select Page

فلسفة الارتحال والتشظّي في ديوان “وطن تنهّد من ثقوب الناي ” لـ علي نسر

فلسفة الارتحال والتشظّي في ديوان “وطن تنهّد من ثقوب الناي ” لـ علي نسر

بقلم الناقدة اللبنانية الدكتورة ناتالي الخوري غريب

تقرأ عنوان الديوان “وطن تنهّد من ثقوب الناي”، للأكاديمي والشاعر علي نسر (الصادر عن دار البنان،)، فيصلك صوت وطن يئنّ من ثقوبٍ، هي جراح لم تقبل الفراغ مساحة صمت، فكان لحن الناي أنين الروح المنكسر الحزين المرتحل في الفضاء، اتحادًا به وتماهيًا معه، لتتردّد الريح صداه من دون أن تحدّها الأمكنة والأزمنة.


تقرأ القصائد التسع عشرة، فتدرك أنّك أمام ملحمة الوجود الإنساني في الشتيت والارتحال والاغتراب والحزن والانكسار والتبعثر والتعثّر في المواعيد غير المحقّقة، وهي المفردات الأكثر هيمنة، إذ ينطلق الشاعر ممّا يسمى بالقصيدة الشمولية المثقلة بالوعي المشبع بالحسّ النقدي، القادر على استيعاب الحركة الكونية الشمولية. وقد يصطدم القارئ للوهلة الأولى بضمير “الأنا” الطاغي، وكثرة تردّده كتضخّم للذات الرومنسيّة، لكنّه سرعان ما يكتشف أنّ هذه الأنا المهيمنة ليست إشباعًا نرجسيًا، بل تظهر التحامًا بالذات الإنسانيّة في الكون لاستكناهه، وبذلك، يخاطب الشاعرُ القارئَ كقوّة قادرة على إعادة إنتاج النص بناء ودلالة، ليزرع فيه تجربة إنسانيّة متّسمة بالامتلاء الداخلي أمام الفراغ الخارجي، والقلق والتوتر الجدلي، توتّر وتجاذب بين الأضداد من خلال منطق الجدليات.
فلسفة الاغتراب من خلال جدليّة الأنا والطبيعة، والأنا والوطن:
لقد أقام هيغل موضوع الاغتراب على “تعارض الذات والعالم وسبل تجاوزه لم تكن إلّا بالوعي”، تُرجم هذا التجاوز عند علي نسر بالكتابة الشعرية، حيث تصبح الأشياء جزءًا من تطوّر الوعي الحرّ، ومرآة يقرأ فيها الوعي حركته نحو التحقّق الكامل، في إدراك كلّي للأنا المتهاوية:
“أنا المتهاوي كراية حرب منكّسة
فجيوشي فلول ممزقة
سنواتي هضاب مشرذمة

ما تبقّى ليومي سوى جرعة
من حكايا مبعثرة كمواويل ناي يتيم
يحنّ إلى قصب عند ساقية من دموع
الوهاد فيبكي حداءً على تلّة وصداه بعيد
أموت وحيدا وأرحل سرًّا بلا كفن
في سحاب سريع
كأنّ خيوطًا من الشمس
تجمع فيّ
الشتات كبحر أجول وليس معي
غير تنهيدة الموج حين يهاجر “.
إنّ العلاقة بين الذات وهمومها علاقة جدل ينتهي الى التماهي في آلية الاكتمال بإلغاء الحدود، فنتبيّن جدل الانسان والطبيعة والعلاقة القائمة بينه وبينها كاتجاه نحو الذوبان، في البحر والشمس والعناصر كافّة، فالشاعر يدثّر رؤيته بعباءة فضاء حرّ من التعبير الفني المشحون بما يعكس تجربة الاتحاد، مستحضرًا الخارج إلى الداخل لتأسيس علاقة جدليّة بين الذاتي والكوني:
“ممزوجة روحي بخفقة نورس متدثّر
بالغيم
ألتقط المسافة ″،
حيث اتحاد مع الطبيعه وتعالي السماء ولطافة الغيم، كذلك يتصاعد في التعبير ليشفّ جسده جاعلا إيّاه حقلا للريح دلالة على تشظّ وتبعثر في ذريرات الوجود، متخطّيًا حدود الأمكنة وقيدها، تعبيرا عن حضور نفسي بالغ التوتر والرفض: “فتشرق الوديان من رئتي
وتشتعل التلال
جسدي حقول الريح
…أنا ليس لي إلّا تثاؤب نبعة محفورة الأصوات
بين زنابق منسيّة الأحواض .
كذلك في جدليّة الأنا والوطن، يصبح هو الوطن، كتعبير مباشر عن تعثّره بالموت حينًا: ” أنا الوطن المتعثّر بالموت
حين تزفزف ريحٌ سنابلَ شعري “،
وتارة بجعل الوطن امرأة يحنّ إلى صدرها تأخذه إلى حنين الطفولة:
” أقرع باب منفاك الأخير
يا هذه الحلم المقوّس لونه
في غيمة السفر المشير
إلى تلال طفولة ممحوّة
أطلالها دمع غزير “،
قبل أن يمزّقه جمود الموروث والصراعات بين دينيّة واجتماعيّة وعقائديّة
“يا امرأة، تمخّض في صباي الفجر
حبلَ السرّة المجدول حول طراوة البسمات في سحري
يمزّقه انبلاج الضوء
فوق وسادة في جوفها الأشواك والأديان
والأموات والأحزان
والآيات والصلبان “.
إنّ الأنا الباحثة عن وحدتها في أبياته هي ضريبة الشعور بالقلق الوجودي والبحث عن جدلية الوجود والحياة كما الذات والعالم، وهي ضريبة شموليّة في الرؤية التي تتعامل مع الواقع انطلاقًا من فلسفة التشظّي بحثًا عن وحدته أي انسجامه، فتجربة الإغراق في الطبيعة والوطن والكون ليس تنفيسًا عن الذات الشاعرة بقدر ما هي موقف من الحياة جاعلا إياها جوهر الألم والتيه، في محاولة رفض ما هو قائم، تمرّدًا عليه، ورفض توراث الجراح والندوب في صورة الملح والدم، رفض توارث الاستغاثة وضياع البوصلة في تكرار المظالم:
“أرى في سيول الدماء
بلادًا من الملح مصعوقة تستغيث
كأنّ مرايا مهمّشة
من بعيد تشير
إلى اللاجهات
خرائطها
يشتريها جراد غفير
وراياتها
في انهزام بلون
الأنين ” .
والتيه ليس فقط في شتيت الوطن الجريح الذي تماهى فيه، فقد أصبح خبزًا:
” أنا البلاد توارثت خبز الهزيمة،
جيشها قصب تناثر نايه
نَوْحًا على الوديان،
أصداء تبعثرها التلول” .
والخبز ضرورة يوميّة تساوي هنا حياة الذلّ والهزيمة، التي صار النعي والبكاء شيمة لها، تردّد ألحانَ أنينها الوديان والتلول الشاهدة على ذلك، وأكثر بعد أن صارت من ماهيّتها، فهذا الخبز عجن بماء من “دلاء بئر عكّرت فيه النوايا” ص 26، ما يجعل الأفق مسدودا في ارتضاء جمود نتن الموروث الذي تتولّد منه الهزائم.

التشظي الناتج عن الانهزام والجرح كمعادل للثورة والرفض والتمرّد:
من باب علم النفس يمكن ان نقرأ تكرار مفردات الانهزام والحزن في هذا الديوان، بوصفه تجسيدا لرفض الشاعر واقع عصره، فتتنامى حدّة القلق وفورة الألم والإحباط تصحيحًا للواقع أو تدميرًا للواقع المرفوض لإعادة تشكيله بالرؤية الجديدة، من أجل حريّة الانعتاق في الإثمار الجديد:
“لتمزّقي الأستار عن جسد تسيّجه رياح القهر،
فكّي زرّ أسرار الوجود عن السواقي
كي تغني النحلة السكرى
على أزهار خمرتها وتنعتق البراعم “.
فعلى مستوى بنائيّة القصيدة تتحوّل المقاطع البنائية والوحدات والأزمنة والصيغ إلى مؤشرات رمزية تومئ بالدلالة على الواقع المتردّي والمبعثر، بعد معرفته وهتك الحجب، محوّلا القصيدة الى رمز للوجود يسكن الصراعات ويقيم معها جدلا من أجل الحياة:
” وأموت خلف شتات أفكاري
وأكفاني خيام أدمنت كتفي
مناجل تستبيح رؤوس قمحي
فاتّكأت على صليب من مياه” .
ففي الصلب انكسار يحمل معنى الانتصار والقيامة، كما رؤوس القمح التي تضجّ بالحياة في معادل موضوعي هنا لأفكاره، أي وعيه، ومن ثمّ اختيار الصليب هنا من مياه، أي من حياة، جعله الشاعر له ملجأ السفر والرحيل بكلمة ” اتّكأتُ” ودلالة الرجاء فيه. وبذلك يدخل الشاعر عالم الكتابة كوعي الدخول إلى الخلاص انتصارًا به على الواقع المهزوم:
“يا دمعة الأقلام في شعري أغيثيني
وداوي رعشة الأنواء في جسدي الغريب
فإنّني كالريح آتية وذاهبة معًا
لا تعرف استقرار وجهتها وأنّي مثلها
أشكو غياب قراري”.
فغياب القرار واللاستقرار في العالم يقابله إغاثة الشعر كفعل مداواة الجراح وتقرير بالتئامها.
وفي ذلك إعلاء لقصدية تشكّل فجواتها الشبكية عبور محاور الانتصار على الهزيمة والتبعثر بتكوّنات فعل الكتابة الدائم التحرّك والتحوّل.
التشظيّ الزمني والتاريخي والأسطوري والديني.
تتحوّل الكتابة الشعريّة في هذا الديوان الى فعل كشف وتجاوز وتحوّل في التكوين وبتعبير آخر تصبح المعادل الشعريّ لإشكاليّة الانهزام الإنساني وتجاوزه بحثًا عن الخلاص، عالجه الشاعر باستحضار التاريخ وتداخل الأزمنة والأمكنة، مستفيدًا من مخزونه الثقافي في مفردات الشعر العربي القديم كما الفكر العربي والتراث الديني لتكون رؤياه توليفة جديدة تختزن في طيّاتها ما هو كائن فيه وفي وعيه:
“سينشلني رحيل البدو من بئر مغطّاة
بشوك الإثم، فالأشطان أوردتي، ويوسف
ينزوي في عتمة ممحوّة، أسرارها محفورة
في قلبي المهجور، أبحث عن قميص مزّقته
أصابع امرأة، من الماضي تجيء
وفي يديها رزمة الأوحال تنثرها على حبقي” .
وتتكرّر صورة يوسف الذي رماه أخوته أبناء يعقوب في البئر في إشارة إلى ظلم الأخوة وحسدهم، ظلم امتدّ على مسافة أوطان وأزمان ما برحت تعاني منها الأمم:” كيوسف الحسن قد أمسيتُ يا وطني
بلا قميص بلا بعد النبؤات
زحفتُ نحو الشتات المرّ منكسرًا
كي أرتمي العمرَ في بئر مغطّاة ، لكنّ الشاعر في هذا التناص أعدم القميص كرؤيا انعدام بشرى الخلاص بدليل وعدت به النبؤات، إلا أنّ الارتماء الأخير في بئر مغطاة قد يكون اتحادًا بالماء المحيية وعدا بخلاص جديد على الأرض، عبر “سنيتشلني رحيل البدو”، ليكسب الارتحال والشتيت دلالة توحي بالعون والتوسّع والتجدّد. وبذلك تكون الحياة احتفالا بموت الموت، وعرسًا للبداية الجديدة كما مرحلة ما بعد الطوفان:
” أيا وطني، متى الطوفان يغمرنا وتعلن
عرسها الأرض التي سئمت من الأموات؟”
وفي استغاثة ملحّة من الشاعر، كي لا تتكرّر أسطورة عاد وثمود، “وكي لا تصير مواخيرهم له مصلى” يطلق ثورته وصرخته إلى الله الذي شعر باستقالته علّه يلتفت إلى الحاضر يخلّصه:
“فأنظرُ نحو السماء..
أرى طيف ربّ خجول
يدير لنا الظهر كالمستقيل.
أيا خالقي،
غمّس الحقدُ باسمك
اصبَعه في زيوت الزمان
وختمك في دفتر الموت معتقل
…أيا ربّ،
إرمِ علينا رياحَ الخلاص
فآياتك المحكمات
يبعثرها الزّيع
والكذب المستبيح حروف الوجود
جراد غريب
سيجتاح خضرتنا في المساء
وتصبح عادًا…
ثمودًا
نجاهر بالكفر
رغم السّيول ”
وفي مكان آخر يثور:
“فصارت الشمس انقسام الوقت
بين تناحر الآيات، والتأويل أجوبة مسنّنة
لطعن السائل المشبوه في الأصلاب والطرق
قد يكون في ثورة الشاعر خطاب غير مباشر إلى الذين يتاجرون بالدين والتأويل الذي يكفّرون ويحلّلون ويحرّمون بتفسير الآيات على أهوائهم، ويقتلون الآخر باسم الله جاعلين إيّاه مرادفًا للحقد والانتقام، قد نتمكّن من قراءة ذلك من باب جمود البنية الثقافية للتراث، أو في ضوء الرؤية الماركسية إلى الدين، ف”ماركس في نقده الدين لا يهدف إلى هدمه، بل هدم شرطه المادي، لأنّ نقد الدين في ذاته لا يعني شيئًا طالما أن الوعي هو الكائن الواعي في تحديده الاجتماعي” بخاصّة عندما تكون هذه التحديدات موسومة بالاضطهاد والاستغلال” كما هي الحال في المواقف التي ذكرها الشاعر والتي يشهد عليها التاريخ في كلّ أبعاده.
كثيرة هي الجدليّات التي طرحها علي نسر في شعره، الذي نوّعه بين كلاسيكي وشعر التفعيلة، وكان الإيقاع الضيف الأكثر حضورًا في مواءمة وانسجام تامّ للمعنى. واللّافت في نصوصه هذا الغنى بالتناص في إحالاته الى مدلولات مغايرة. كذلك ظاهرة التغريب فيه أي الانفصال الدلالي للكلمات والعبارات التي تشيع جوًّا من الغموض وتبدّل الدلالات وبلاغة الصور في شحناتها الإيحائية الغنيّة كالّتي يتقنها الشاعر أدونيس والتي تستثير القارئ وتحثّه على استحضار مخزونه الثقافي والتراثي،
” دمي خثّرته الريح وألقته
للعابرين كباب عتيق
يقيّد أنمله صدأ أو صرير “
ومن باب قراءة نصّ على نسر بمنهج الشعرية الذي اعتبره ريفاتيير أنّه يتجاوز النص ليشمل القارئ، ويرفض “استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لأنّها لا تنتج الشعريّة بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة” وهو منهج اتضحت رؤيته عند جاكبسون في اعتماده على المحاور الثلاثة لعملية الاتصال “المرسل، المرسلة، المرسل إليه، وهذه الرؤية الجدلية لا تبتعد عن الفلسفة الهيجليّة أو عن شروح الماديّة الجدليّة”، غير أنّه جدل يبتعد عن الخطاب الإيديولوجي المباشر، ليهتمّ بنية الخطاب دخولًا في بعده الوظيفي، فيظهر لنا أنّ وعي الشاعر بوصفه وعيًا غيريًّا، وهي رؤية اشتراكيّة تؤمن بالفرد صانعًا للجموع، استطاع أن يعلي مكانة القارئ، معطيًا إيّاه مساحات واسعة من فضاءات التأويل والمشاركة معه في كتابة نصّ موازٍ. ففي كلّ قراءة أخرى لهذا الديوان، مغامرة في التيه والترحال والانكسار مع الشاعر، ثورة معه على عدم التوافق على توارث التشظّي، الذي قد تستدعيه لفترة ما حركةُ التطور والارتقاء، من أجل تجاوزه لاستعادة جوهر الهناءة المفقود.
دكتور علي نسر، باحث وناقد وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانيّة، كليّة الآداب والعلوم والإنسانيّة، له العديد من الأبحاث النقدية في مجلات محكّمة وعشرات المقالات المنشورة في جرائد محليّة وعربيّة.

المصدر: النقابة الفرعية لاتحاد كتاب الغربية – صفحة الكاتبة.

المنظر لحالو بيحكي! مطعم و كافيه قدموس كاسكادا مول تعنايل للحجز 81115115 ‏ Our Online Menu: https://menu.omegasoftware.ca/cadmus Website: www.cadmus-lb.com #Restaurant #Cafe #Lakeside #CascadaMall ‏#5Stars #Lebanon #International #Fusion #Cuisine ‏#Royal #Zahle #SendYourSelfie #Halal #Mediterranean ‏#Lebanesefood #holiday #cadmusrestocafe #food #foodphotoghrafy #delicious #ribs #family #isocertificate #lebanese #yummy #tasty #Cadmus #waffles #wings

 

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com