كيف يعيش غرافيتي نيويوركي في سرداب باريسي؟
عندما ينتقل فن الغرافيتي من الفضاء العام إلى الغاليري، يصبح غريباً عن نفسه. لكن عندما يكون هذا الفن مولوداً في نيويورك، وينتقل إلى صالة عرض في شارع باريسي، تمسي غربته تلك مضاعفة. هذا ما يخلص إليه الزائر في معرض الفنان الأميركي، رايم، الذي يحمل عنوان “أولاد أنفسنا”، والذي يقدمه غاليري “وال ووركس”، لا سيما حين يتسلل إلى ما يشبه السرداب تحت مبنى باريسي قديم.
ففي هذه المساحة السفلية، التي لا ينيرها سوى ضوء النيون، ارتفعت رسوم رايم في جدرانها، وقد بلغ عددها نحو العشرين. وأضاف إليها الفنان، لوحة، تألفت من ريشته الصغيرة وإلى جانبها قطعة قماشة ملونة بلطخات ضئيلة وكثيرة. وفعلياً، هذه اللوحة، ومع أنها لا تلائم باقي الأعمال، تصلح ان تكون باب الحديث عن غرابة المعرض ومنحاه.
إذ إنها تنطوي على تناقض مع الرسوم حولها. ومفاد التناقض أن الريشة لا تبدو أداة رسم الفنان، الذي يتطلب شغله أدوات أخرى، كالفرشاة مثلاً. بالتالي، يشير رايم إلى انه استخدم هذه الأداة، لكنه في الواقع، لم يفعل، وفي حال فعل، فليس في أعماله الجدارية. لكنه، ولكي يصرح بذلك، لا بد أنه يريد قول شيء آخر، وهو التظاهر بكونه رساماً على نحو محدد، بحيث أن سمته الأساس هي الرتابة، التي طبعت القماشة الملونة بالقرب من الريشة.
إلا أن هذا التظاهر ليس سوى سبيل إلى التهكم، بحيث ان انتظام اللوحة، ووضع الريشة والقماشة فيها بطريقة منسقة، يكاد يكون مضحكاً، مقارنة مع الفوضى الشديدة في كل الرسوم. من هنا، يدرك رايم أن عرض أعماله في هذا القبو الباريسي، الذي يسمى “غاليري”، يستلزم أن يكون بفنه غير ما هو عليه دائماً: أن يحيا بين جدران أربعة، وليس في الطريق. وبسبب رفعه بين جدران أربعة، لم يقتصر الأمر على إصابة فن رايم بغربة ذاتية دفعته إلى التهكم، بل إن هذا الفن صار عرضة لفعل لم يعتده من قبل، وهو إمعان النظر فيه.
ففي العادة، الرسم الجداري، الذي يقدمه رايم، وحين يظهر في تلك الساحة، أو تحت ذاك الجسر، يترافق مع نظرة سريعة اليه، نظرة تبقى على سطحه، ويشعر بطاقة هذا السطح من دون أن يدري كل ما يمثله. لكن هذا الوضع ليس متوافرًا في المعرض الحالي، إذ أن النظر السريع ينقلب إلى تمعن في الرسم، وإلى ملاحظة تمثيله أكثر من طاقته. فها هم بعض الزوار يتساءلون إن كانت الرسوم كلها كناية عن رسم واحد متكرر. وذلك، لأنها، ومهما بدت مختلفة، إلا أنها تحوي الشخطات والخطوط والشخصيات الكرتونية نفسها. بيد أن تساؤل هؤلاء، أو استنتاجهم، قد يكون في محله عند الاكتفاء بالتعامل مع رسم رايم كرسم تمثيلي، وليس كعلامة على طاقة تحتدم، وتحتدم كثيراً فيه.
فهذا الرسم لا يستقر على جو ثابت لأن طاقته، التي يصنعها تضارب الخطوط والألوان، تتغير من عمل إلى آخر، وداخل كل عمل أيضاً. إذ أنها تسجيل لطاقة المكان الذي يدور رسمها فيه، نيويورك تحديداً، حيث العملقة والعجلة والتحول. وغالباً ما تنم هذه الطاقة، وبالتوازي مع كون رسمها ينتجه تضارب خطي ولونيّ، عن شدة التعارض بين أمرين. الأول، شيء قريب من الثقل، ثقل الحداثة. والثاني، شيء قريب من الخفة، التي، ومع أنها في اولها حملت بغية التفلت من ذلك الثقل، غير أنها سرعان ما صارت خفته. الأول، الحداثة في مرحلتها الصناعية المتفاقمة. والثاني، هو الحداثة في مرحلتها الديجيتالية/الرقمية. تضارب الاثنين يؤدي إلى تلك الطاقة كما يقدمها رايم: اصطدام الرقمي مع الصناعي، والصوري مع الفولاذي، والكرتوني مع الإسمنتي. اصطدام يعبّر، في نهاية المطاف، عن الاصطدام اليومي للأفراد في مكانهم الذي يتبدل، فيتبدلون معه كي لا يفوتهم. ونتيجة سرعة التبدل، يصيرون آثاراً بصرية.
فنحن “أولاد أنفسنا”. لا سعني هذا أننا عصاميون، بقدر ما يعني أننا لا نتوقف عن توليد أنفسنا بأنفسنا، لكي لا يطحننا المكان بتقلباته الدائمة. لهذا بالذات، لا بد من تعادل الروح الثورية مع روح التكيف. وفي هذا بالذات، لا يثور الغرافيتي النيويوركي، ولا يتكيف مع جدار الغاليري في باريس، سوى بالاستناد إلى التهكم.
روجيه عوطة/ المدن