رسالة الرئيس وسحب التكليف أو التعويم.. كلها غش سياسي
يتفنن ساسة لبنان في ابتكار الاجتهادات والتفسيرات والفتاوى، لا بل “الفذلكات” الدستورية، عند كل منعطف وخلاف سياسي وأزمة تمر بها البلاد، كالواقعة راهناً منذ الانتهاء من الانتخابات النيابية، في شهر أيار من العام المنصرم (2018)، والعجز عن تشكيل حكومة، رغم شبه الإجماع الذي ناله الرئيس المكلف سعد الحريري من قبل النواب.
وأدى هذا العجز إلى التلويح بأفكار وطروحات، تحت مسميات مختلفة، و”فذلكات” دستورية، منها تلويح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بتوجيه رسالة إلى مجلس النواب، أو الحديث عن سحب التكليف من الرئيس الحريري، أو ما يسميه البعض “تعويم” حكومة تصريف الأعمال.
فماذا تقول السوابق والتجارب وحتى النصوص والآراء الدستورية في هذا المجال؟
رسالة الرئيس
أجازت الفقرة 10 من المادة 53 من الدستور لرئيس الجمهورية توجيه رسائل إلى مجلس النواب عند الضرورة.
وقد أستخدم هذا الحق من قبل الرؤساء الياس هراوي عام 1998، الذي وجه رسالة للمجلس، تضمنت طلباً بوضع آلية تشكيل الهيئة الوطنية، تمهيداً لدراسة مقترحات وسبل إلغاء الطائفية. ثم رسالة إميل لحود عام 2005، الذي حث فيها مجلس النواب على إجراء انتخابات نيابية بمواعيدها الدستورية، وحسم الجدل الدائر بشأن قانون الانتخاب آنذاك. وأيضاً، ميشال سليمان الذي وجه رسالة بتاريخ 21 أيار 2014، دعا فيها المجلس إلى الانعقاد وانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل 25 أيار 2014، أي موعد انتهاء ولايته الرئاسية.
وفي كل هذه الحالات، كان المجلس النيابي يتلقف هذه المبادرات الرئاسية، ويعقد جلسات لمناقشة هذه الرسائل، من دون الأخذ بمضمونها. لا، بل رُد بعضها من خلال تصويت الأكثرية النيابية، كما حصل في جلسة 7 أيار 2005، التي ناقشت رسالة الرئيس إمیل لحود حول الانتخابات النیابیة، وبعضها تُلي من دون مناقشة، أو اتخاذ موقف منها، وذلك ربما خلافاً لروحية ما رمت إليه الفقرة 10 من المادة 53 من الدستور، المأخوذة عن دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية (1958)، إذ تمثل أحد أوجه إعتراض رئيس الجمهورية على أداء السلطات الدستورية، ومراجعة القرارات المشكو منها في علاقة السلطتين الإجرائية والاشتراعية.
يقول الخبير الدستوري، والنائب السابق، الدكتور صلاح حنين لـ”المدن” : “إن الدستور أتاح للرئيس توجيه الرسائل إلى مجلس النواب. كما حدد النظام الداخلي للمجلس، آلية التعامل معها. وهذا حق دستوري للرئيس يُفترض استخدامه في هذا السياق. فرئيس الجمهورية الذي يرأس السلطة التنفيذية، يستطيع مخاطبة النواب وحثهم على العمل، من أجل إقرار مشاريع قوانين مهمة برأيه، أقرتها الحكومة وأرسلتها إلى المجلس، وفيها مصلحة للبلاد والمواطنين من وجهة النظر الرئاسية، وتتطلب السرعة. لكنه لا يستطيع استخدام هذا الحق في مكان مخالف للدستور”.
وتقول المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس “عندما يرغب رئيس الجمهورية بتوجيه رسالة إلى مجلس النواب عملاً بأحكام الفقرة 10 من المادة 53 من الدستور، تطبق الإجراءات التالية:
1- إذا كانت رسالة رئيس الجمهورية مباشرة، يبادر رئيس المجلس إلى دعوة المجلس إلى الانعقاد خلال ثلاثة أيام من تاريخ تبلّغه رغبة رئيس الجمهورية.
2- بعد استماع المجلس إلى رسالة رئيس الجمهورية، يرفع رئيس المجلس الجلسة لمدة 24 ساعة، تستأنف بعدها الجلسة، لمناقشة مضمون الرسالة، واتخاذ المواقف أو الإجراء أو القرار المناسب.
3- أما إذا كانت الرسالة موجهة بواسطة رئيس المجلس، فعليه أن
يدعو المجلس للانعقاد خلال ثلاثة أيام لمناقشة مضمون الرسالة، واتخاذ
الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب.
سحب التكليف
لم
يحدد الدستور مهلة للرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة. وهذا شأن معظم الدساتير
في العالم، حسب رأي الوزير السابق، والخبير الدستوري، الدكتورخالد قباني،
الذي نشر دراسة له حول هذه المسألة، في شهر تشرين الأول 2018، لأن المبدأ
الذي يحكم تشكيل الحكومات، وكذلك انتخاب رئيس الجمهورية، هو وجوب تشكيل
الحكومة من دون تأخير، وبأسرع وقت ممكن. والقصد من عدم وجود مهلة محددة، هو
تحرير الرئيس المكلف من عامل الوقت، ومن الضغوط، ومن مطالب الكتل
النيابية.
ويعتبر الاجتهاد الإداري، أنه بعد التكليف وتسمية رئيس الحكومة، لا سلطة ولا صلاحية، لأي جهة، بسحب التكليف أو وضع حد له، فاختيار رئيس الحكومة من قبل النواب، ليس تفويضاً يمكن سحبه، وليس تعييناً يمكن العودة عنه، بل هو تكليف بمهمة تنتهي بانتهاء تسمية الرئيس المكلف، لأنه جاء استناداً إلى أحكام الدستور.
ويؤكد الخبير الدستوري صلاح حنين لـ”المدن” أن “لا شيء اسمه سحب تكليف في الدستور، وما لم يرد فيه نص كالتكليف وفقاً للمادة 53، يعتبر اختراعاً وبدعة ليس لها آلية أو مبدأ”.
وهذا الأمر كان محط نقاش في الطائف، إذ يشير بعض من شارك في هذه المناقشات، وخصوصاً النائب السابق بطرس حرب، في أكثر من حديث له، إلى جملة اقتراحات نوقشت وسقطت، حول تحديد مهلة للرئيس المكلف.
ومن أبرز تلك الاقتراحات، إعطاء مهلة 45 يوماً للتأليف، وفي
حال انقضائها يتم تسمية رئيس مكلف جديد، أو عرض التشكيلة الحكومية على مجلس
النواب بعد مرور فترة محددة على التأليف. ويمكن للمجلس البت بالأمر سواء
عبر قبول التشكيلة أو رفضها.
لا “تعويم” مع الطائف
يرى
النائب السابق صلاح حنين أن لا شيء اسمه “تعويم حكومة تصريف الأعمال”، لأن
الدستور حدد تصريف الأعمال بالمعنى الضيق. ولا تستطيع الحكومة اتخاذ أي
إجراء، أو قرار ينتج عنه أي عمل يؤثر على المواطنين.
ويقول لـ”المدن”: “إن الحكومة تحكم من خلال الثقة التي تنالها، وتتمتع بها، بتكليف من الشعب عبر ممثليه في مجلس النواب. وتستطيع عبر هذه الثقة اتخاذ قرارات ملزمة للمواطنين. بينما حكومة تصريف الأعمال لا يمكنها إلزام الحكومة التي ستأتي بعدها بقرارات لمدة سنة مثلاً، كالموازنة، التي تحتاج إلى أكثرية الثلثين لإقرارها في مجلس الوزراء وبالتالي إلزام المواطن بسياسة مالية لمدة سنة”.
وما يُسمى تعويم حكومي عرفه لبنان، في مرحلة ما قبل اتفاق
الطائف، كان مع الحكومة الأولى للرئيس سليم الحص في عهد الرئيس الياس سركيس
عام 1976. والذي استقال في نيسان عام 1978 بعد انهيار الوضع الأمني في
البلاد، حين أعيد تكليفه وأخفق في التأليف، بسبب النزاعات آنذاك، لينتهي
الأمر بعد 26 يوماً إلى تعويم الحكومة المستقيلة، بعد إبلاغ الحص اعتذاره
إلى سركيس عن عدم تأليف الحكومة الجديدة، فسحب الرئيس منه التكليف، وتراجع
عن قبول الاستقالة، فاستعادت الحكومة المستقيلة دورها وشرعيتها، كأن شيئاً
لم يحدث، واستمرت حتى 16 تموز 1979.
وحدث أمر شبيه في الأول من حزيران
عام 1987، عندما اغتيل الرئيس رشيد كرامي، بعدما كان استقال وأعتبرت
الحكومة ساقطة بوفاة رئيسها، وأتفق بأن يخلف الرئيس سليم الحص، رئيسها
الراحل ويترأسها، وأن يعيَّن وزيراً للخارجية بالوكالة، في الحقيبة التي
كانت لكرامي، على أن تصرف الأعمال إلى حين تأليف حكومة جديدة. فأصدر الرئيس
أمين الجميّل حينها مرسوم تعويمها، واستمرت الحكومة من عام 1987 إلى عام
1989.
إلا أن إتفاق الطائف وضع حداً لـ”فذلكة” التعويم، مع اعتبار
الحكومة مستقيلة عند وفاة رئيسها، حسب نص المادة 69، كما لم يعد رئيس
الجمهورية مرجعية تسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة، بل مجلس النواب،
عملاً بأحكام المادة 53 (إجراء إستشارات نيابية ملزمة بنتائجها)، وتكريس
تصريف الأعمال في الفقرة 2 من المادة 64 بالمعنى الضيّق للحكومة المستقيلة.
لم يعطِ الدستور الحكومة المستقيلة ما أعطاه إلى مجلس النواب في الفقرة 3 من المادة 69 إذ دعاه إلى عقد استثنائي حتى تأليف الحكومة الجديدة ونيل الثقة.
أكرم حمدان/ المدن