شاشات متعددة في محطة تلفزيونية واحدة. ذلك هو السرّ الذي ينكشف الآن.
لمن تفتحت عيناه على الابيض والاسود، وتلقى الاشعة الضارة مما كان يسمى ب”الشاشة الفضية”، وما كان يوصف ب”صندوق الفرجة”، ما زال الدخول الى أي مبنى تلفزيون، الى الاستديوهات المنبسطة، والكاميرات المعلقة، والاضواء الكاشفة، والميكروفونات الخفية، يثير الرهبة والخفر، كأنه مقام للتعبد، محفل للتصوف، مركز للتأمل، تدور فيه الاحاديث همساً، وتتشكل اللغة من تقاسيم الوجوه وحركات الاجساد وإحتشام الازياء.
لم تبدل الالوان التي أضيفت في مرحلة لاحقة الى تلك الشاشة
البراقة، من الصورة العالقة في الذهن، بأن التلفزيون سحرٌ ورجسٌ وخطر. وكان
التعبير الشائع في البداية أنه يتسلل خفية الى كل بيت ويزرع فيه النماذج
الفاتنة والمفتنة والافكار الخبيثة والاراء المنافقة. كان مجرد الجلوس أمام
الشاشة الصغيرة أشبه برحلة خطرة لن تكون نهايتها أقل من التخلي عن بعض
القيم والتقاليد، أو ربما كلها.
كان هذا هو الانطباع الأول الذي لم يصمد طويلا عندما جرى
إختراع ذلك الجهاز الخارق، جهاز التحكم عن بعد، الذي أبعد الاذى والضرر،
والذي بفضله صار يمكن طرد أي متطفل أو متسلل ألى الشاشة بكبسة او بلمحة
بصر، وإستعاد المشاهد سيادته المستلبة على “صندوق الفرجة”، وما يحتويه من
تفاهات وترهات وتخرصات.. وإسترد التلفزيون سيرته الاولى التي لا يزال جيل
الابيض والاسود يحفظها حتى اليوم، وينقلها الى اجيال جديدة ساخرة: هو مجرد
أداة تحكمها التاءات الثلاث، الترويج، والترفيه، والتنويم. والتاء الاخيرة
تبقى هي جوهر المشاهدة وغرضها الاسمى.
تغير الزمن، ولم تتغير تلك التاءات الثلاث. أُدخل عليها تعديل
“بسيط”، عندما صار البث على مدار الساعة، ولم تعد نشرة الثامنة مساء التي
تلتقط أنفاس المشاهدين لحظة إسترخائهم من يوم عمل طويل، بل باتت النشرات
والحلقات الاخبارية أشبه مسلسلات درامية بلا نهاية، وأصبح النقل المباشر
على الهواء ومن أي مكان في العالم أسهل من التحدث على الهاتف. عندها أطل
التلفزيون بصورته الشرسة، المحطمة لكل ما راكمه جيل الابيض والاسود، من
ثقافة بنيت على القراءة والكتابة وحدهما، سواء بالورقة والقلم أو بالشاشة
والاحرف في ما بعد.
كان من الصعب على ذلك الجيل التسليم بالهزيمة أمام “صندوق
الفرجة” الذي حقق إنتشاراً مذهلاً، وإستهوى كل صاحب بصر وبصيرة، وإستقطب
الكثير الكثير من القراء والكتاب الذين بات أملهم أن يأتي التلفزيون على
ذكرهم أو أن يستضيفهم في محافله ومقاماته، للترويج لأفكار وآراء ومواقف
عبروا عنها كتابة، لكنها لم تصل الى ذلك الجمهور اللامحدود، الذي لا يتوقف
عن الاتساع ولا يتردد في إستدعاء الاجيال الجديدة الى التمرد على التاءات
الثلاث، والتواصل عبر الصوت والصورة مباشرة.
لم يكن من الممكن، ولا من اللائق، الادلاء بمثل هذه
الاعترافات القاسية، لدى الدخول الى مبنى التلفزيون العربي، في العاصمة
البريطانية، قبل أيام. ثمة كيان جديد، لم يبلغ سنته الخامسة بعد، ينضم الى
فريق المنتصرين في معركة الاعلام. يؤسس لتقليد مختلف، لا يروّج ولا يرفّه
ولا ينوّم، ولا يستدرج سلطة جهاز التحكم عن بعد. التلفزة هي صورة حية،
واقعية، رصينة، جدية، لا تساوم على حقها في الوصول الى أبعد مدى، الى جمهور
عربي معروف سلفاً، لا يتوقع من شاشته الزاهية، سوى التميز في تلك الغابة
من الشاشات المفترسة.
في ذلك التميز المنشود، يغامرالتلفزيون العربي على أكثر من
مستوى: الهوية العربية هي في السياسة إطمئنان وإنسجام، لكنها في الاعلام
الراهن قرار بالتصدي لموجة عربية (وعالمية) كاسحة، ترتقي بالخبر وبالحدث
المحلي مهما كان عابراً وبالوسيلة الاعلامية المحلية مهما كانت متواضعة الى
مصاف المعجزات والخوارق، وتحل كل ما هو عابر للحدود الوطنية في مرتبة
التسليات المخصصة لفئة محددة من رواد أندية النخبة. الإعلان عن أنه ما زال
هناك مشترك عربي عميق قد يبدو سهلاً، ومؤثراً ، لكنه يستدعي صراعا مفتوحاً
مع شاشات لا تبث سوى ما يرسخ الخصوصيات ويزيد الحساسيات، ولا تؤسس سوى
لمعضلات عربية إضافية.
التلفزيون عربي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وبكل ما تحتويه
الصورة من برامج إخترقت جدران الرتابة والرداءة، فصار للسخرية السياسية على
سبيل المثال نكهة خاصة ليس لها مثيل في بقية الشاشات، وبات للقضية
الاجتماعية تناول مختلف يتقبله المشاهد المغربي والمشرقي والخليجي بقدر
واحد من الاهتمام، واصبح للقضية السياسية العربية منصة متقدمة على بقية
حلبات الملاكمة التلفزيونية، وعاد الترفيه الى مداره الطبيعي الجاذب، وبدأت
المنافسة في مجال الوثائقيات اللامحدود.
شاشات متعددة في محطة تلفزيونية واحدة. ذلك هو السرّ الذي ينكشف الآن.
ساطع نور الدين / المدن