“البعث الإسلامي” يجدّد الاستبداد السياسي
أدت الميديا في الأحداث السورية دوراً مؤثراً في التلقي العام لدى
الشارع السوري الذي كان شبه ضائع في زلزال التغيير المتصاعد من قاع مجتمعه.
وركز إعلام النظام السوري على تصدير الأزمة السياسية المتراكمة لعقود، على
أنها خلاف ديني – طائفي، حاد ودموي. وهذه الجوانب، تمت تغذيتها على مستوى
الدعاية السياسية، كاللوحات الطرقية وساعات البث التلفزيوني للقاءات مع
أشخاص جنّدهم النظام إعلامياً من أجل تبرير نظرية “ضرب النسيج السوري”!
ويكمن السرّ في تلك العبارة، في إنها التحوير الأمني لأهداف الاحتجاجات
السورية، وهي الجسر المزعوم لنقلها إلى مواجهة ترهيبية علنية منذ الأيام
الأولى لانفجار الأزمة السورية حتى الأمس القريب.
إذ افتتح مؤخراً بشار الأسد، ما يسمّى “مركز الشام الإسلامي
الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف” في دمشق، الذي كان قد أسبقه بخطوات مماثلة
كافتتاح قناة “نور الشام” الدينية، التابعة للتلفزيون “الرسمي” وكذلك
إطلاق وثيقة “ميثاق الشرف الديني” التي وصفها أحمد بدر الدين حسون، مفتي
نظام الأسد، بأنها: “لمواجهة التحديات التي تتعرّض لها عقول المسلمين في
سورية، ورداً على من يحاولون تدمير سوريا التي ما زالت تحمل قيم الإسلام
الحقيقي” حسب زعمه.
وبالنظر إلى طبيعة الخطاب السياسي الذي يستخدم أدوات دينية تستغل فرط الجهل المعرفي، المقصود، في الشارع السوري، يمكن ملاحظة كيف أصبح ردّ فعل المعارضة السورية منذ البداية بتحول الصراع من المطالبة بالحرية والكرامة وإسقاط النظام سلمياً، إلى إعلاء معتقدات دينية مختلفة بمرجعياتها ومناطقيتها ومنحها أولوية للصراع “الطائفي” إياه المفترض من النظام.
ومن هنا، راهن نظام الأسد على تحويل إخراج المعتقلين السياسيين، أصحاب المرجعيات الدينية المتطرفة، من سجونه، إلى طعم أيديولوجي يؤسس الألوية والكتائب العسكرية المقاتلة لصالح المعارضة، ويقدم لهم تسهيلات شراء الأسلحة وإخلاء المناطق تدريجياً بالاتفاق، كما أشيع، لتفقد الثورة شكلها السياسي وتصبح “نضالاً دينياً بحتاً” فيما بقيت النخب السياسية السورية، إمّا رهن الاعتقال والإخفاء أو الترحيل أو الاغتيال أو التهديد الأمني لعائلاتهم في الداخل. أضف إلى ذلك ظهور لعبة “تنظيم الدولة الإسلامية-داعش وابنته جبهة النصرة” وتحريكه من منطقة إلى أخرى في سوريا، بتنسيق استخباراتي، دولي ربما، من أجل خدمة أجندة الأسد وحلفائه بتشويه الثورة وإظهارها متطرفة ومتشددة وإسلامية!
ومنذ زمن اعتمد حزب “البعث” في سوريا، والفاقد لأبسط معايير التطوير “الفكري”، على اصطياد فرصة تنظيم الإسلاميين لصفوفهم من مبادئ “جهادية”، والمقصود هنا تجربة “الإخوان المسلمين في سوريا”، في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، ليرتب من خلال أحداثهم الدامية، منظومة ردوج أفعال عنيفة تقوم على اخضاع اجتماعي وسياسي شامل للشعب السوري، وزجّ كل أطياف المعارضة في السجون وملاحقتهم عبر الخطاب العسكري الدموي والتخوين. إذ لا تزال نظرة المؤامرة تلك، تطبّق بحذافيرها حتى اللحظة، نظام يواجه “تنظيمات إسلامية متطرفة” وتركيز إعلامه الرسمي والوحيد ساهم بشكل كبير في تغييب الحقائق عن السوريين والاعتماد على خطاب الالتزام بالتعليمات البعثية حتى في نشرات أخبار الطقس، وصبغ التوتر الديني بكل أشكال الحراك السياسي المناهض للأسد.
وبالتالي فإن قيام الثورة السورية في كل أطياف المجتمع، جعل الحصن المنيع لدولة البعث مخترقاً. ومهما كان شكل التحالفات في الداخل السوري “دولياً” فإن ثمن الوعي السياسي للشعب السوري لا يزال يدفع ولا تراجع عنه، وكذلك استغلال طقوسه الدينية والروحية في سبيل تطمينات الولاء لنظام الأسد، تجدد استعبادها لتلك الأشكال الروحية من علاقة الفرد بالدين، وجعل ثقافة ممارسة العديد من الطوائف والمذاهب لطقوسها في سوريا، مشروطاً بالتقارير التتبع والتدجين، وبالتالي تأكيد بقاء الدولة الأمنية في صلب الوعي الباطني والتربية المنزلية وتوجه التعليم وصولاً إلى الحياة السياسية ومصادرة الحريات، وذلك ما هو مستمر حتى اليوم في ذهن المواطن السوري.
الحراك الشعبي، ورغم عودته إلى المعالجة الفطرية، الدينية، بحثاً عن المعونة لتنظيم الثورة، وتنوّع زخمه في الروح السورية المعاصرة، إلا أنه يسعى إلى تصحيح المسار والامساك بزمام المبادرة الحقّة. فالرفض لممارسات النظام وحتى فصائل المعارضة، أصبح لغة الشارع في التظاهرات، مهما كانت متواضعة ومهما كان ثمنها. ومحاولة الأسد اليوم اللعب على مشاعر السوريين في الداخل مجدداً وأمام الرأي العام، يعتقد أنها لتبرير سحق آخر معاقل الفصائل المعارضة شمالاً بوصفها “بؤرة للجهاديين” عبر توجهه “لشيوخ الإسلام السياسي” الذين تحويهم وزارة الأوقاف التابعة للنظام. وذلك يدل بشكل قطعي على أن أزمة فهم الأحداث السورية تراوح في منطقة “المؤامرة الكونية” ذات الرياح الإيرانية “الجهادية” والطيران الروسي الباحث عن مصالح بلاده، وقتل أي صوت آخر لا يرى في “الأسد معتدلاً دينياً”. وبتوصيف أدق، هذا اليقين الديني، بعثي المنشأ، متفاهم مع مخابرات الرعب والإجرام على الديكور الإعلامي المناسب “لتنظيرات افتاء القتل بالبراميل والكيماوي” وتصنيع بعبع التطرف الجهادي من الدين نفسه، ثم اقتراح فتح مركز “لمواجهة الإرهاب والتطرف، إسلامياً” وبحضور أشخاص تعلّموا أصلاً في معاهد وجامعات الأسد “الشرعية”!
في اعتقادي، حتى اليوم، لا يرى النظام أن أزمة البلاد سياسية، أزمة حريات واستبداد اجتماعي وعبودية، ما زال يحاول أن يظهر نفسه “الحارس” المنطقي للتوازنات الدينية (…) يرتكب مجزرة هنا في حق طائفة، ويترك آثار تدل على خصومه هناك بين من يقتلهم. يُقصي كل من يفكر ويرفض إجرامه أو ينتقده ولو بإشارة! ليلبس اليوم مرة أخرى ثياب “الحمل الرباني” أمام أحد مكونات المجتمع السوري، يحلل خطابات المعارضة المسلحة ذات المرجعية الإسلامية، ويعالجها على طريقة “كل إنسان خائن، مجهري” بحسب نظريات بشار الأسد والسوريالية البعثية التي زاوجت بين الدين والسياسية على مقاس الطغيان والتبعية العسكرية لترسم أمامنا “فاشية” القرن الجديد برعاية قوى دولية وعمالة داخلية من أغلب الأطراف المتقاتلة في سوريا.
المدن / عمر الشيخ