الحريري منتفضاً على مغالبته ومكاسرته… جنبلاط قوة الحلف المشتهى
من المعروف عن الرئيس سعد الحريري أنه الشخص الذي تأخذ منه
الكثير في التفاوض والمساومة، إنما لا يمكن التعامل معه بالفرض والإملاء،
أو محاولة الكسر والإجبار. ومن المعروف عنه أيضاً، أنه غالباً ما يجنح نحو
التعالي عن الكثير من الصغائر والمناكفات والتجاوزات. بل وأثبت أنه “طويل
البال” إزاء هكذا ممارسات. اليوم، يبدو أن صبره بدأ بالنفاد أمام استفحال
الكثير من الممارسات السياسية السيئة. ولذلك، يغلّب الرجل في كلامه العلني
الحديث عن الاقتصاد، كاتماً غيظه من التفاصيل السياسية المنفرة. فنراه
يردد: “إن ما يهم المواطن هو القضايا المعيشية والاجتماعية”. لكن، حتى في
إصراره على هذا المسار، لم يستطع تجنّب محاولات تجاوزه سياسياً، ومحاولات
“مصادرته” وفرض أمر واقع عليه، وإلزامه السكوت عما يحدث، خصوصاً في استهداف
ممنهج لأفرقاء أساسيين في التركيبة السياسية للبلد. أسلوب الحريري في
الصبر والبحث عن التوازن، ورفض الإملاء أو الانكسار، يتّبعه مع كل القوى.
وتجلّى بالتحديد منذ إنجاز التسوية الرئاسية.
بين جنبلاط وباسيل
يصرّ
الحريري داخلياً، على سياسة “صفر مشاكل”. يتجنّب الاشتباكات والمعارك
السياسية، حتى مع القوى التي يختلف معها بشكل جذري كحزب الله، حتّى بات
حاجة لمختلف القوى، وبشهادة حسن نصرالله الذي أكد تمسكه بالتسوية
“الصامدة”، وبالحفاظ على الحريري رئيساً للحكومة، بوصفه نقطة وصل وتقاطع
للمصالح بين الجميع. فهو حاجة لحزب الله، وللتيار الوطني الحرّ، ولحزب
القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي. وعليه يمثّل الرجل أهمية
استثنائية في هذه المرحلة، لأهمية الدور القادر وحده حالياً على لعبه.
فترة التوتر المكشوف بين سعد الحريري ووليد جنبلاط، كان مردها بعض المواقف العنيفة التي أطلقها رئيس “الاشتراكي” ضد رئيس الحكومة. وكان الحريري يفضّل السجال وتناول الاختلاف بعيداً من الإعلام. لكن عندما كان يتعرّض لانتقاد لاذع من جنبلاط، كان يضطر إلى الرد عليه مباشرة أو مداورة. ما أدى إلى تدهور العلاقة بينهما، إلى أن ترتبت لقاءات عديدة عملت على تسوية العلاقة.
ما كان يعانيه الحريري مع جنبلاط، إثر انتقادات جنبلاط
المتكررة لمآل “التسوية الرئاسية” ومسارها، كونها برأيه ستؤدي إلى محاصرته،
ومن ثم إلى محاصرة الحريري نفسه.. كان الأخير قد عاناه مع التيار الوطني
الحرّ أيضاً. وقد تجلّت هذه المعضلة في المواقف التي أطلقها الوزير جبران
باسيل، واستدعت رداً مباشراً من الحريري. واستمرت “معاناة” الحريري، إثر
مسلسل زيارات وجولات رئيس التيار الوطني الحرّ، في مناطق وبلدات ومدن،
أجمعت معظم القوى السياسية على أنها استفزازية وأفضت إلى توترات خطيرة. ثم
كان الهجوم “الباسيلي” على وزيرة الداخلية ريا الحسن واللواء عماد عثمان،
ومن بعدها تعطيل عمل مجلس الوزراء، عبر التلويح باستخدام الثلث المعطل،
ووضع الشروط للمشاركة بأي جلسة حكومية، منها شرط إحالة ملف حادثة قبرشمون
إلى المجلس العدلي.
مغالبة ومكاسرة
هنا وجد الحريري نفسه
يتعرّض لسياسة الفرض والإملاء والإخضاع. وهذا بالضبط المنطق الذي لا يستقيم
معه. وهو يكرر في مجالسه أن بإمكان أي شخص أن يأخذ منه بالحسنى، ما لا
يمكن أخذه بالقوة أو العناد.
منذ حادثة الجبل، ومحاولة تطويع الحريري وحشره في خانة التيار
الوطني الحرّ، بدا واضحاً تغيّر أداء الرجل. وظهر منتفضاً على محاولة
مغالبته ومكاسرته. صحيح أنه تلقى رسالة تعطيلية من قبل وزراء التيار الوطني
الحرّ، لكنه قبل ذلك أطلق موقفاً واضحاً أنه لن يوافق على إحالة الملف على
المجلس العدلي، ولن يسمح لحكومته أن تكون مسرحاً لكسر وليد جنبلاط أو
تطويقه أو تصفية الحسابات معه. وعليه استمرّ في موقفه الواضح إلى جانب
جنبلاط. ولا يزال على هذا الموقف. وهذا ما أبلغه إلى جنبلاط في اللقاء الذي
عقد في بيت الوسط مساء السبت الماضي. إذ كان الحريري واضحاً بأنه لن يدعو
إلى أي جلسة لمجلس الوزراء في ظل الإصرار من قبل طرف على إحالة الملف إلى
المجلس العدلي.
ليلة السبت
لقاء الحريري جنبلاط الأخير،
هو الثالث الذي يعقد في خلال أسبوعين. ما يوحي بعودة الحرارة للعلاقة
بينهما. بل وكان معلناً تشديدهما على الاستمرار بالتنسيق في مختلف القضايا.
وهذا التنسيق وحده سيكون كفيلاً بإستعادة التوازن السياسي وتعزيزه في
البلد. وحسب ما تكشف مصادر متابعة، فإن اللقاء كان ودياً وحمل الكثير من
الإيجابيات، إذ جرى تجديد التأكيد على “وحدة الموقف”، وتسهيل التحقيقات
القضائية في حادثة قبر شمون. وهنا تتوقع المصادر، أن الأمور تحتاج إلى
المزيد من الوقت لتبريد الأجواء العامة، بما يتيح عقد جلسة لمجلس الوزراء.
وسيستكمل الحريري الاتصالات والمشاورات مع مختلف الأطراف لإيجاد المخرج
الملائم.
من الواضح حتى الآن أن ترميم العلاقة وتمتينها بين جنبلاط
والحريري، يغير المشهد السياسي نوعياً، سيترجم بإرساء توازن نسبي، خصوصاً
وأن الحريري اكتشف خطورة محاولات البعض جرّه عنوة إلى موقع ليس موقعه،
ومحاولة تجريده من حلفائه. “ممانعة” الحريري ضد محاولات استضعافه ستؤسس
لواقع سياسي جديد، ولو تحت سقف الحفاظ على التسوية واستمراريتها. والجديد
هنا في صلابة الأداء وفي التنسيق التام بين الحريري وجنبلاط، على نحو يستمر
الأخير بمواقفه، فيما الأول يستمرّ في دور إطفاء أي حريق.
ذاك الحلف المشتهى
طبعاً،
لا يمكن راهناً الحديث عن إعادة إحياء تحالف سياسي يقوم على مواجهة تحالف
آخر، على الرغم من وجود الرغبة والنية. هناك “ثوابت” في الأصل، تتعلق
بمفهوم الدولة وعقيدتها السياسية، وبتصورات كبرى حول وجهة لبنان وهويته
وعلاقاته الإقليمية والدولية.. ثوابت لها علاقة بروحية “الطائف” ونصه، كما
بالنظام السياسي وبتحكيم الدستور. كل هذا، ما زال فاعلاً في “الانقسام”
اللبناني رغم كل التسويات. ولذا، ستبقى تلك الرغبة العميقة باستعادة ما
يشبه أو يوازي ذاك الحلف المعارض الجامع الذي تأسس في خريف العام 2000،
واستمر عملياً حتى العام 2008. لكن هذا الطموح سيبقى معلقاً ومؤجلاً،
ارتباطاً بالظروف والتحولات المحلية والإقليمية والدولية. وربما يحتاج إلى
وقت مديد.
هذا الخيار – الطموح لم يسقطه جنبلاط من موقفه بعد لقائه الحريري، عندما ردّ على كلام نصر الله، قائلاً له: “أنا أخاصم رجالاً وأصادق رجالاً”، في إشارة واضحة من جنبلاط إلى الثبات على موقفه، وعدم تراجعه، خصوصاً أن ما يرمي إليه ويقصده في كلامه، هو أن كل حلفاء الحزب الذين يحاولون مهاجمته أو تطويقه أو البحث عن مكاسب على حساب مكانته ونفوذه وزعامته، إنما يتحركون لا بقوتهم الذاتية ولا بحيثية سياسية مشروعة، بل باستقوائهم بآخرين (حزب الله والنظام السوري). فأراد جنبلاط أن يبلغ موقفه مباشرة نصر الله. وهذا أمر نادر منذ سنوات طويلة، حين كان يفضّل عدم الردّ مباشرة على الحزب أو أمينه العام. وهذا مؤشر على تغيّر في اللهجة والأداء. ردّ جنبلاط على كلام نصر الله بما يخص قضية معمل عين دارة، نافياً أن يكون قد حاول الدخول شريكاً مع بيار فتوش، محذراً أمين عام حزب الله من أن يقدّم له بعض مقربيه معلومات مغلوطة، أو أنهم “مستفيدون” من معمل فتوش، مبدياً أسفه لتقديم نصر الله مطالعة استراتيجية انتهت بفتوش: “ليس جميلا أن تنتهي بعد كل هذه المطالعة الكبيرة بقصة فتوش”. واستكمل جنبلاط رده المتشعب، والذي يعكس إصراره على عدم التراجع، عندما أبدى استغرابه إزاء نبش نصر الله جملة لجنبلاط في العام 2005 حول “سلاح الغدر”، وكان الافتراض أن لغة الصدام هذه تم تجاوزها منذ سنوات، وجرت في الأثناء تفاهمات وتسويات كثيرة. استذكار نصرالله لعبارة جنبلاط، تقول أن حزب الله مازال هناك في العام 2005، بوجهيها “المجيد” و”الدموي”. وربما بهذا المعنى يفرض على الجميع أن يعودوا بدورهم إلى هناك.
المدن