الإنهيار يقرّب الإنفجار..إسقاط الطائف لتكريس آحادية تسلّطية
قد
يكون الأهم من موقف الرئيس ميشال عون من الإستراتيجية الدفاعية، كلامه عن
تصحيح اتفاق الطائف. ولا شك في أن التسوية الرئاسية أدخلت لبنان في مرحلة
القفز فوق الطائف. سواء بإقدام كل طرف على تفسيره تفسيراً يناسبه وعلى
هواه، أو باعتبار أنه لم يطبق كما يجب، ومن الواجب تطبيقه.
الطائف واللاطائف
علنياً
يعيش لبنان حالياً في ظل الطائف، وفي ظل اللاطائف عملياً. أنه في مرحلة
انتقالية في انتظار وجهة جديدة يمكن أن يرسو عليها. وفي المراحل
الانتقالية، يطال الانحدار والتردّي المجالات المختلفة، السياسية والشعبية
والثقافية الاجتماعية والاقتصادية. وقد تؤدي هذه الأوضاع إلى صيغة جديدة.
يعرف
التاريخ حقباً تشهد المجتمعات فيها حالات قمع وركود مديدة، تؤدي إلى
انفجار التناقضات الكثيرة. ليس بالضرورة أن يكون شكل الانفجار حرباً أهلية
شاملة أو واسعة. فقد تظهر إشكالات وصدامات موضعية متنقلة: سياسية، عسكرية،
اقتصادية، وطائفية … وصولاً إلى الصراع على النفايات! أو الصراع على
مسألة المخيمات الفلسطينية، أو اللاجئين السوريين. ولا تنفصل هذه الصراعات
كلها عن التوجهات السياسية العامة.
صلات مقطوعة ونفعية
في
كلاسيكيات الماركسية هناك مثال عن توازن القوى داخل المجتمع، والتي يعمل
بعضها على تعطيل البعض الآخر. في هذه الحال المتكافئة من التعطيل، يصل شخص
بلا وزن أو ضعيف وغير ملم، فيتسلم السلطة، ويصبح هو المخلص. فبسبب دقة
التوازنات الاجتماعية يظهر أحياناً من بوزن ريشة لترجيح الكفة. حال لبنان
تشبه هذه الحال، مع فارق أن من هم في السلطة يتمتعون بأوزان شعبية. والطبقة
السياسية في لبنان اليوم، شديدة الاكتفاء بذاتها. فهي قادرة على الإمساك
بالسلطة وتقاسم المغانم كما تريد. والزعامات السياسية تنغلق أكثر فأكثر على
مصالحها الداخلية، المرتبطة بالعوامل والمشاريع الخارجية. والزعامات
المنغلقة هذه، ينقطع التواصل بين جماعاتها، وفي ما بينها إلا في الأزمات.
والصلات الوحيدة القائمة بينها صراعية ونفعية، وتتخذ طابعاً طائفياً لتأمين
استمرارية المغانم والمكاسب. وهذا ينطبق على القوى السياسية اللبنانية
المختلفة.
أنواع الجماعات والطائف
وتتوزع الجماعات
السياسية في لبنان على أنواع: تنظيم حديدي مرصوص، يمتلك القوة والسلاح
والإيديولوجيا والاتساع والعمق الشعبي والتنظيمي، ومرتبط عضوياً بالخارج،
ولديه مشروع استراتيجي. وهذا هو حزب الله. وهناك تنظيم آخر لديه مشروعه، هو
القوات اللبنانية التي لها حضورها في البيئة المسيحية، لكن تأثيرها محدود
في المعادلة. وهناك جماعة تنطلق من موروث تاريخي قديم، تقليدي وراسخ، كحالة
الدروز والزعامة الجنبلاطية. وهناك الجماعة النفعية الخالصة المتمثلة
بالتيار الوطني الحر وتيار المستقبل في مرحلته الحالية، التي تختلف عن حقبة
مشروع رفيق الحريري الذي كانت لديه مقومات مشروع في مواجهة مشروع حزب الله
الاستراتيجي، على الرغم من تحالفه معه أو إيجاد صيغة للمساكنة بينهما.
خيط
اتفاق الطائف الرفيع – وهو يمثل صيغة مجددة لميثاق 43 بمعنييه السياسي
والاجتماعي – أصبح واهياً، وقد يتعرض للقطع. واستقلال لبنان كان قد قام على
تحالف فئتين من الرأسماليين والإقطاع السياسي. فعندما أُنشئ لبنان الكبير،
قام على تركيب نطاقين اجتماعيين: لبنان المركزي بمكوناته الاجتماعية
الحديثة. ونطاق اقطاعي – فلاحي قديم. وللجمع بين هذه المكونات كان لا بد من
إنشاء تحالف بين البرجوازية والإقطاع السياسي. وهذا ما أسس لتركيب صيغة
الحكم التي تعبر عن وجاهة الإقطاعيين، في مقابل حرية الاقتصاد للرأسماليين.
وسرعان ما دخل الإقطاع السياسي رويدا رويدا إلى عالم الأعمال، في مقابل
دخول الرأسماليين رويداً رويداً إلى السياسة.
الشهابية والحرب والحريري
في
عهد الرئيس فؤاد شهاب تقلصت الفجوة بين الطبيعة العامة لهذه الأطراف في
الدولة المركزية، فدخل فاعلون جدد إلى التأثير في المجالات السياسية
والاجتماعية. لكن التحالفات لم تكن طائفية محضة، بل قامت على زعامات من
الطوائف، إلى أن انفجرت صيغة النظام في حرب الـ 75، المرتبطة بأحداث
وتطورات إقليمية ودولية. بعد 15 سنة حربية، أُنهكت القوى والجماعات فعادت
إلى صيغة الطائف، التي عدلت صيغة الـ 43. فإلى جانب البرجوازية والزعامات
التقليدية، دخل زعماء الحرب والميليشيات إلى الحياة السياسية. وما نُفِّذ
من الطائف هو الاتفاق الثلاثي في جنيف بترجمته السورية. وفي هذه الممارسة
جرى القضاء على الزعامات التقليدية التي كانت خارج القوى اللصيقة بالنظام
السوري.
بعد
الانسحاب الاسرائيلي من الشريط الحدودي عام 2000، حصل تحول على صعيد
المساكنة السعودية – السورية: الحريري اعتبر أن الاقتصاد فوق الأمن، أو أن
تحرير لبنان من قبضة الوصاية الأمنية تحسّن الاقتصاد، ليتبين أن هذه الوجهة
لم تكن صائبة في لبنان. وهذا ما أدى إلى الانفصام، استناداً إلى متغيرات
إقليمية. وكان الحريري هو المحاولة الجدية التي كانت قابلة لتحديث النظام
في لبنان على قاعدة خيار اقتصادي نيو ليبرالي يتجاوز صيغة الـ 43.
قطبية غالبة
ومنذ
العام 2005 إلى اليوم، يعيش لبنان لمرحلة انتقالية مرتبطة بمتغيرات
إقليمية ودولية. وبعد التسوية الرئاسية في 2016، جرى تفجير المؤسسات
الموروثة من اتفاق الطائف. كأن ما فشلت الحرب في القضاء عليه، يُقضى عليه
حالياً، تماشىاً مع موجة تحول وتغيّر إقليمية ودولية، تشبه إلى حدّ بعيد
نماذج الأحاديات التي يعاد تكريسها في المنطقة. وهي أحادية تستند إلى منطق
استعادة الصلاحيات والحقوق، وترتبط مع قوى أخرى بشبكة مصالح متعددة.
ولتتوفر إمكانات استمرار هذا المشروع، تُعقد توافقات داخلية نفطية
وكهربائية، وتقاسم غنائم السلطة، ما دام المال الخارجي غائباً كلياً.
هذه التوافقات كلها تؤشر إلى أن المشروع الحقيقي، هو الخروج من صيغة الطائف ومؤسساته، والبيئات الاجتماعية التي تعتاش عليه. وهذا يبرر الصراع على الصلاحيات مع الحريري لتطويعه مع جنبلاط، بهدف تغيير طبيعة لبنان، وفق صيغة جديدة تزيد التسلط وتلغي صيغة التوازن الطائفي. ولذلك يكثر الحديث عن التوزان الطائفي حالياً، للخروج على هذا التوازن في ما بعد. لكن هذا الخروج لن يكون قابلاً للتحقق بدون تكريس سيطرة القوى السياسية التي تتستر بالحقوق لكسر التوازن.
في المقابل من يواجه هذا المشروع، يفتقد الى أي قدرة للنجاح في هذه المواجهة. فعمله يقتصر في رده على ردات الفعل الموضعية، وفق منطق الدفاع عن النفس، مع غياب كلي لأي حراك مدني شعبي قادر على الوقوف بوجه هذا المسار، وما يمثله من تعزيز العصبيات، وضرب مفهوم المؤسسات، أو الصيغة اللبنانية التقليدية، والبحث عن صيغة حديثة. لكن خطورة حداثتها، أنها ستكون مبنية على أحادية تحالف سياسي، يُلحِق به قوى أخرى: أي صيغة غالب ومغلوب تنأى تماماً عن الديمقراطية اللبنانية المعتادة.
منير الربيع / المدن