الثورة وحماقات “الرؤوس الحامية”
بدخول الثورة الشعبية أسبوعها الثاني، لا بدّ من التأكيد على
قضايا أساسية ذوات صلة. رُقي هذه الثورة وسلميتها رغم عقود من الاستهانة
بالشعب وبحقوقه. استحالة الفصل بين المطالب الاقتصادية والاجتماعية وبين
النظام السياسي. المأزق الذي تواجهه السلطة السياسية للتعامل مع مطالب
الشعب.
عقود الامتهان
لم تفتر عزيمة الشعب في شوارع
العاصمة وكل المناطق اللبنانية. عقود من الامتهان راكمت سخطًا وغضبًا
وحرمانًا، تمّ التعبير عنها بوسائل سلمية حضارية لم تشهد نظيرها في أرقى
الدول التي شهدت انتفاضات وحراكًا شعبيًا، لا ترتقي إلى ثورة بهذا النوع
على امتداد جغرافيا الوطن. ومن أكثرية الشعب الساحقة. المشهد هذا أرعب
السلطة. وحدّ من تدخلها وأمدّها بمزيد من الصلابة والتماسك.
لسنا أمام مطالب كمثل زيادة الأجور وتحسين شروط العمل
وخلافهما. كل بلية من البلايا كانت تحتاج بذاتها إلى انتفاضة شعبية من
زمان. النفايات تحتاج إلى انتفاضة. البطالة تحتاج. السرقات ومال المواطن
المنهوب. الكهرباء. المياه. البيئة. هجرة الكفايات. النقل وحقوق المواطن
بنظام سير آمن. الطرقات. سرقات القطاع العام. العجز والموازنة. الرشى
والفساد. الضمانات الصحية المفقودة لـ40 في المئة من الشعب. نموذج اقتصاد
ريوع لازمة لنظام سياسي يتغذى أحدهما على الآخر. 80 في المئة من الثروة في
يد 5 في المئة من اللبنانيين. القضاء الموضوعة عليه اليد. القضاة الذين
يرفضون استقلالهم عن سلطة بالدستور. مؤسسات الرقابة والمحاسبة. الدولة
العاجزة عن بسط سلطتها على كل أراضيها. الأمن بالتراضي. غياب السياسة
الدفاعية. السياسة الخارجية سياسات. قانون مدني متخلف للأحوال الشخصية.
التمييز ضد المرأة والأمومة. التنكر للدستور والقانون. تفكك السلطات من
داخلها. عجزها عن ممارسة مسؤولياتها بموجب الدستور. لا حدود بين السلطة
التنفيذية وبين السلطة التشريعية. وبين الأولى وبين رئاسة الجمهورية. مجموع
هذه الآفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ما عادت تحتاج
إلى مجرد بيان نقابي ومطلبي. أساسها سياسي في عمق النظام بغطاء أيديولوجيا
الطوائف. كل نتائج الفحوص الشعاعية والنووية والمغناطيسية تقول ذلك. علم
الاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية تقول ذلك أيضًا. أزمتنا ليست بنت
ساعتها. تراكمت حتى باتت تهدد كيان دولة ووطن وشكلّت ثورة شعبية.
مأزق الحكم
هناك
مأزق كبير يواجهه الحكم والحكومة للتعاطي مع أهم شعار للثورة بعد شعار
إسقاط النظام. وهو استقالة الحكومة. وكان يمكن لهذا الشعار أن يستجاب في
يوم الثورة الثالث. لكن ماهو شكل الحكومة المفترضة؟ وممن ستتألفّ؟ ستنبثق
من ضمن مقتضيات الدستور. إستشارات نيابية إلزامية ونتائجها كذلك. لو سلّمنا
جدلًا بإعادة تكليف سعد الحريري، لا يمكن عودة الوزراء أنفسهم من ممثلي
أحزاب السلطة. والوقت قصير جدًا لإعادة تأهيل هؤلاء في “مدرسة مكارم
الأخلاق الحميدة وأصول تولي المسؤولية العامة”. والحكومة على فرضية
استقالتها، جاءت وليدة تسويات سياسية ليست منفصلة عن التسوية الكبيرة التي
سبقت انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون بإصرار من “حزب الله”. لهذا كانت
الثورة و”كلّن يعني كلّن”. لو هرب الحكم والحكومة إلى تبديل في الوزراء
والحقائب، وسدّ الشغور الذي خلّفته استقالة وزراء “القوات اللبنانية”
الأربعة بمن فيهم نائب رئيس الوزراء، فالمأزق نفسه سيتكرّر. المستقيلون
مسيحيون. و”فتى العهد الأغرّ” جبران باسيل هو “الممثل الشرعي الوحيد”
للموارنة والمسيحيين. تأليف حكومة جديدة من أحزاب السلطة، والتعديل
الوزاري، كلاهما خيار لا يؤدي إلى نتيجة. هذا فصل من فصول مأزق الحكم
والحكومة.
أوليغارشيا وقضاء
الفصل الآخر المهم من المأزق
هو تأليف حكومة من مستقلين حقيقيين بالكامل، ونزهاء من خارج جلباب أحزاب
السلطة. حكومة كهذه، يفترض أن تباشر بخطوات الإصلاح الإداري والمالي،
والمحاسبة، واستعادة الأموال المنهوبة إلى آخر شعارات الثورة. ولنا أن
نقول، أن مربط الفرس هنا يكمن في أن أي حكومة مقبلة هي التي ستتولّى تنفيذ
مشاريع البنى التحتية من أموال مؤتمر سيدر. وتشرف عليها ضمن آلية مشتركة
حددها المؤتمر مع الحكومة اللبنانية. وفي هذه الحقيبة مشاريع أخرى تتصل
باستخصاص مؤسسات مربحة في القطاع العام، وخطة إصلاح الكهرباء، وقطاع
الاتصالات والطيران وغيرها. من “سوء الظن” أو “من حُسن الفِطن”، بات
معلومًا أن الأوليغارشيا بدأت منذ فترة طويلة تحضّر نفسها لتحظى بحصتها من
تلك المشاريع. سواءٌ بالمباشر من خلال شركاتها الاستثمارية، أو من الباطن،
أو عبر تمثيلها شركات دولية وعلامات تجارية ومالية واستثمارية معروفة.
ودعونا نعتقد “بالفِطنة وسوء الظنّ” معًا، أن جزءًا من التسويات السياسية التي حصلت بعد الانتخابات رئاسة الجمهورية وقبل تأليف الحكومة، قام على تفاهمات مالية واستثمارية، واقتسام الحصص والمنافع. فحقوق الطوائف محفوظة. وحقوق زعماء الطوائف بالطوائف نفسها، وبرعاياها، محفوظة هي الأخرى وحصرية! لذلك نحن في أزمة كهرباء دائمة ومستعصية. وفي معضلة تلزيم معملي دير عمار والزهراني وسلعاتا. وفي معضلة النفايات، والمطامر والمحارق. ولهذه الأسباب لا يتم تعيين الهيئات الناظمة لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران وخلافها. ولا مجالس إدارات. وهي المعنية مباشرة بإدارة تلك القطاعات وليس سلطات الوصاية السياسية التي تفرض هيمنتها على القطاع لحشد زبائنها وأتباعها، رغم العجوز المالية الكبيرة المتراكمة. وقد باتت نصف الدين العام. ورغم الأعباء الجسيمة التي يتكبدها المواطن والاستثمار والاقتصاد. ولهذه الأسباب تعرض الحكومة عن إمرار المناقصات العامة في ادارة المناقصات. وتُستّن قوانين في مجلس النواب لمشاريع من خارج رقابة ديوان المحاسبة يبطل المجلس الدستوري بعض موادها.
أي حكومة جديدة من مستقلين حقيقيين وخبراء قد تأتي، لن تتدخل في السلطة القضائية. وستفعّل مؤسسات الرقابة المالية والإدارية. وعلى رأس مجلس القضاء الأعلى اليوم، قاضٍ له سجل من الشفافية نحسبه سيطبق الدستور ويتمسك بالقضاء سلطة مستقلة. وسيحمل القضاة المتخلفين عن هذا المبدأ، والمتنازلين عن صلاحياتهم المطلقة بالعدل أساس الملك، على سلوك مسار جديد يمثل ثورة في القضاء. وهذا ما تشدد عليه ثورة الشعب اللبناني. هل وصلنا إلى مرحلة يطلق فيها النظام النار على نفسه ليرضى بإصلاحات ويتنازل عن امتيازاته؟
مثال ديغول
شارل ديغول بطل تحرير فرنسا من الفاشية الهتلرية. كبيرًا دخل قصر الإليزيه وخرج كبيرًا، لمجرد عدم حصوله على أكثرية أرادها في استفتاء وطني بعد ثورة طلابية عام 1968 آزرها عمال المصانع. كان القمع الذي لجأ إليه ديغول وراء خذلانه من شعبه. الجيش اللبناني حمى شعبه. صورة بعض الجنود يدمعون في جلّ الديب، أيقونة سنشهدها لعقود مقبلة. أن ترسل السلطة أزلامها ومسلحيها من الأحزاب الطائفية والمذهبية، لافتعال الصدام مع الناس، فأمرٌ خطر جدًا تتحمّل هي وأحزابها والرؤوس الحامية فيها، مسؤوليات تداعياته مع وجود الجيش على الأرض.
المدن