مئوية إحسان عبد القدوس.. المتحرر أدبياً المحافظ اجتماعياً
الحرية مفاهيم وتصورات، وفي المقام الأول اختيارات واختبارات. وفي محك الصدامات العنيفة مع الآخر والمجتمع والسلطة؛ والأصعب معترك الصدام مع الذات؛ تتحدد مقوّمات التحرر لدى الفرد، وفق قائمة انحيازاته وممارساته.
عند
النظر إلى صورة الكاتب، أديبًا كان أو صحافيًّا، تتعقد آليات الرصد لتبيان
موضعه على خريطة التحرر، فهل تكفي قراءة كتاباته وتحليلها موضوعيًّا
وفنيًّا بمعزل عن الأمور الأخرى، كمواقفه السياسية مثلًا وانخراطاته
الحزبية وحياته الاجتماعية وأحواله الأسرية وصداقاته وعلاقاته العاطفية،
وما إلى ذلك، أم تُؤخذ هذه “التحركات” أيضًا في الحسبان لتعيين منظومة رؤية
الكاتب؟
لعل الأقرب إلى الإنصاف في ميزان مساءلة الكاتب على نحو مجرد هو
الاقتصار على “كتابته”، ومن المؤكد أن هذه الكتابة فيها الكثير والكثير من
ترددات وأصداء وانعكاسات واضحة لهذه الأمور المتعلقة بإنسانية الكاتب
وقناعاته الحقيقية وتصرفاته اليومية إزاء كافة الشؤون والقضايا، في الهمّ
الخاص والعام، فلا تنبني الأحكام والقياسات على التخمين والاحتمال، وإنما
على ما صدر من الكاتب وثبتت نسبته إليه، سواء في إبداعاته ومقالاته
ومذكراته وأحاديثه الإعلامية الموثقة؛ بدون تحريف إجاباته عن سياق
التساؤلات.
في ذكرى إحسان عبد القدوس (يناير/كانون الثاني 1919- يناير/كانون الثاني 1990)،
المُحتفى بها في مصر بإصدارات عنه، أحدثها للكاتبة زينب عبد الرزاق بعنوان
“إحسان عبد القدوس.. معارك الحب والسياسة” (الدار المصرية اللبنانية،
ديسمبر/ كانون الأول 2019)، تجدر إثارة نقاشات جديدة حول تجربته، بعد
ثلاثين عامًا من غيابه، وأكثر من مئة عام على ميلاده.
يمكن اتخاذ “على مقهى في شارع التحرر” عنوانًا عريضًا لهذه الإطلالة الآنية على حصاد “كلمات” إحسان عبد القدوس في سائر حقول الكتابة، وذلك على غرار عناوين سلاسل مقالاته ذائعة الصيت: على مقهى في الشارع السياسي، على مقهى في الشارع الاقتصادي، على مقهى في الشارع العربي.
إن ما يخص “التحرر” ليس مجرد عنصر من عناصر تجربة إحسان، لكنه الشارع الأوسع في جُملة كتاباته، والمركز الثابت الذي تكاد تدور حوله كافة أعمال صاحب “أنا حرة”، ومنطلق سلوكيات بطلاته وأبطاله في الروايات والقصص والدراما المصوّرة، ومفتاح استكناه كل أفكاره وتوجهاته وقناعاته كأديب وصحافي وكاتب سياسي، وأيضًا كإنسان جرى وصفه على طول الخط بأنه “الليبرالي صاحب المشروع”، بتعبير الناقد غالي شكري، و”أحد أهم الرموز الليبرالية المصرية، بعد جيل لطفي السيد وطه حسين”، بتعبير المفكر لويس عوض.
ست البيت
من خلال مؤشر التحرر في كتابات إحسان، يمكن ملامسة مدركات ومفاهيم عديدة لديه، متعلقة على سبيل المثال بالحب والجنس والجرأة في تعرية المجتمع والاستغناء واستقلال الشخصية وكفاح الصحافة والثورية السياسية والعلاقة بالسلطة وبالخطاب الديني، إلى جانب ما يكشفه المؤشر ذاته من نظرته إلى مؤسسة الزواج، ودور المرأة في المجتمع كـ”ست بيت” في الأساس، وموقفه الرافض ممارستها العمل، وما إلى هذه الآراء الصريحة، التي تحولت بالفعل إلى ممارسات مطبقة في أسرته.
بغض النظر عن حقيقة كون هذا التذبذب بين الإفراط الحاد في الطليعية والتقدمية والانحياز الصارم إلى المحافظة يعود إلى أسباب نفسية وتجربة شخصية بالغة الخصوصية منذ الطفولة (التربية الريفية في القرية لدى الجد، ومعاناة الابن من انشغال الأم “روز اليوسف” عنه بسبب اهتمامها الأكبر بالتمثيل ثم بالصحافة، وتوزعه منذ الصغر بين جلسات أصدقاء جده الدينية وندوات أصدقاء والدته الفنية والصحافية)، وبعيدًا عن أي مسوغات خارج الدرس النقدي والفني لتبرير نتائج مؤشر التحرر ودلالاتها المتناقضة في تجربة إحسان، فإن هذه المخرجات المكتوبة بحد ذاتها التي يسوقها مؤشر التحرر هي محل الاهتمام في هذا المقام، خصوصًا تلك التي جرى الكشف عنها للمرة الأولى من رسائل وأوراق خاصة وصفحات مجهولة في سجل كتابات إحسان.
ليس هناك من شك في أن الشق الأعظم من نتاج إحسان هو تحرري بامتياز، الأمر الذي جعله “المعادل النثري” للشاعر نزار قباني، فكلاهما محسوب على الغزارة والشعبوية والبساطة والوصول إلى أكبر عدد من القرّاء، خصوصًا الشباب والناشئة. ومن جهة أخرى، مثلما رصدت زينب عبد الرزاق في “معارك الحب والسياسة”، فإن كلًّا منهما قد أفنى عمره “في نقد السلطة الحاكمة، وتعزيز الخصوصية الثقافية والشخصية القومية، وتبني مفهوم الحرية والتوجه الليبرالي، والدفاع عن المرأة”.
الأسلحة الفاسدة من هذه الشواهد، وما أغزرها وأكثرها، في ما يخص علاقة إحسان بالسلطة، تفجيره قضية الأسلحة الفاسدة في عهد الملك فاروق التي قيل إنه تعرض بسببها للاغتيال، وتعرضه للحبس في عام 1947 بسبب مقاله الذي طالب فيه برحيل السفير البريطاني، وانتقاده سياسات ضباط يوليو في العهد الناصري بمقال ناري بعنوان “الجمعية السرية التي تحكم مصر” تسبب في إيداعه السجن الحربي لأكثر من ثلاثة أشهر في عام 1954، على الرغم من صداقته السابقة لعبد الناصر، وعدم توسطه لدى السادات للإفراج عن ابنه “محمد” الذي اعتقل في أعقاب أحداث سبتمبر 1981، ومناوشاته واقتحامه قضايا جريئة في عهدي السادات ومبارك، بما أدى إلى وقف سلسلة مقالاته في مجلة “أكتوبر”، ومحاولة التضييق على قلمه.
ولعل ما كتبه إحسان في مجلة “الشباب” في يناير/كانون الثاني 1988، ونقلته نرمين القويسني في كتابها “إحسان عبد القدوس.. أمس واليوم وغدًا” (دياسيك للنشر، القاهرة، 1991)، حول ما يمكن وصفه افتراضيًّا بقيود الحرية، يمهّد إلى الإطلال على ذلك الجانب الآخر من مخرجات مؤشر التحرر لديه، المحسوبة على المحافظة والتقليدية، أو على الاحتكام إلى المنطق والعقلانية بالضرورة: “الحرية ليست في الخروج على المجتمع، بل إن الحرية الصحيحة لا تتحقق إلا داخل المجتمع. الحرية لا تعني التحرر من المبادئ العامة، فالمنحلّ لا يعتبر حرًّا، والكاذب لا يعتبر حرًّا، والمتلاعب لا يعتبر حرًّا، إنما هؤلاء يُعتبر الواحد منهم معتديًا على الحرية، وليس معتديًا على الغير فحسب، ولكنه أيضًا مُعْتَدٍ على نفسه، لأنه يعرضها لعداء المجتمع”.
هذا هو الهامش أو الشارع الآخر الضيّق، الذي وسّعه بعض الشيء الإفصاح عن رسائل ومكاتبات و”فضفضات” وأوراق مجهولة اكتشف حديثًا في مكتبة إحسان، وأثبتها كتاب “معارك الحب والسياسة” الصادر منذ أيام قليلة. ويحتوي هذا الهامش، بقديمه وجديده، على نماذج أكثر وضوحًا لهذه المواضع ذات الطبيعة التحفظية أو النقلية، التي قنصها مؤشر التحرر المسلط على سائر كتابات إحسان، بتنوعها وتعددها.
أربع نساء من ذلك، رسالة إحسان إلى ابنه محمد، التي اتخذت منظورًا دينيًّا فقهيًّا متوارثًا بشكل مباشر في النظر إلى أمور اجتماعية، من قبيل مؤسسة الزواج، وتعدد الزوجات. كتب إحسان إلى ابنه: “ولدي محمد، الإسلام دين يحفظ للمرأة كامل شخصيتها وكامل حقوقها، وهو دين يعترف بواقعية طبيعة المرأة، وواقعية طبيعة الرجل، ويجمع بين الطبيعتين ويصونهما، على أساس إشهار وإعلان العلاقة بينهما، ومن وسائل الإشهار عقد الزواج. وإذا كان قد أباح للرجل الزواج بأربع نساء تحت شروط محددة مفروضة عليه، فلأنه حريص على ألا تفرض عليه طبيعة علاقة خفية سرية بينه وبين أية امرأة. ولكن شعوبًا أخرى لا تدين بالإسلام، تفرض على نفسها علاقات خفية سرية بين الرجل والمرأة، وهو ما يرفضه الإسلام، ويعتبره جريمة يعاقب عليها، وهي جريمة الزنى”.
وليس
المقصد هنا تفجير سجال فقهي بطبيعة الحال حول موقف الدين من قضايا اجتماعية
كهذه، وإنما المراد استعراض طبيعة الخطاب كنص نقلي يندر أن يستخدمه أديب
متحقق أو صحافي مرموق على هذا النحو التلقيني الحرفي، حتى ولو في سبيل
إثبات صحة القول الموروث، وليس التجادل معه.
ومن مثل هذه الآراء التي تحولت إلى مواقف فعلية في أسرة إحسان
(الكاتب الأجرأ الذي واجه تهمة الإباحية من فرط توغله في استقصاء خبايا
النساء) إعلانه المتكرر أن المرأة إنما هي خُلقتْ للبيت ورعاية الأولاد
والزوج، وإرهاقها بالعمل خارج البيت يأتي على حساب دورها الحقيقي، وفي ذلك
يقول: “اخترتُ في زوجتي (لولا) النقيض من والدتي، اخترت المرأة التي توقف
كل حياتها ووقتها للبيت والزوج، بعكس والدتي التي كان الزواج بالنسبة لها
أمرًا ثانويًّا إلى جانب العمل، ولم يكن وقتها يتسع حتى لي. مع ذلك، فهناك
تشابه حقيقي بين زوجتي ووالدتي، لقد اجتمعت فيهما معًا صفات القوة في
التحمل ومواجهة الأحداث والقدرة على اتخاذ القرارات”.
معارك الحب
ويحكي الابن أحمد عبد القدوس على
صفحات كتاب “معارك الحب والسياسة” ما يؤكد بالضبط كتابات إحسان المنشورة في
هذا الصدد، سواء في مقالاته وأحاديثه الصحافية الكثيرة، حيث يقول الابن:
“أمي كانت تحمل كل مسؤوليات الأسرة ومتطلباتها، فهي مسؤولة عن تربيتنا وكل
ما نحتاجه، وسنوات الدراسة والمذاكرة والنجاح، ومسؤولة عن أبي وكل
احتياجاته في الحياة ليتفرغ للكتابة والصحافة والسياسة والأدب، ولم تخذل
أبي أبدًا أو تعارضه”.
وفي رسالة نادرة كشف عنها الكتاب ذاته، كتبها إحسان الذي لم يُرزق إناثًا إلى ابنته “المتخيلة”، تجلت ملامح أخرى على مقهى شارع التحرر. في هذه الرسالة العجائبية، تخيل إحسان أن له بنتًا، وأنه اكتشف هو وزوجته أن ابنتهما ذات السادسة عشرة على علاقة بأحد الشبان “مدحت”، وأنها تحادثه في التلفون، فكان رد فعله أنه لم يحد من حريتها، ولم يستجوبها، وطلب التعرف على عائلة مدحت ودعوة أفرادها إلى البيت. وقد أسهب إحسان في شرح وجهة نظره: “واجبي أن أضعكِ أنت ومدحت في مجتمع سليم، يضم عائلتينا، حتى أساعدكِ على تكوين رأيكِ فيه، فنحن في حاجة دائمًا إلى المجتمع، وخير للفتاة أن تتحدى عيوب المجتمع من أن تفر منه”. ويتساءل إحسان في رسالته: “ماذا كنتُ أريد؟ كنتُ أريد أن أثبت لنفسي أن الحرية هي الأمان الوحيد من أخطاء العاطفة، وقد كانت البنات قبل أن نولد يعشن خلف مشربيات، ولكن هذه المشربيات لم تحمهن من الخطيئة، فكان الحل هو القضاء على المشربيات، ومنح البنات حق النظر من الشبابيك، ثم الشرفات، ثم الخروج إلى الشارع”.
وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال الأصعب: هل كان إحسان سيفعل مثلما ذكر في رسالته، لو أن ابنته هذه حقيقية وليست متخيلة، وبدرت منها هذه التصرفات؟! يبدو مؤشر التحرر حائرًا إلى أبعد حد في الاستقرار على إجابة شافية!
شريف الشافعي – المدن