الفساد يفجّر بيروت: الخسائر أكثر من 13.5 مليار دولار؟
تُفضي محاولة استيعاب ما جرى في بيروت مساء الثلاثاء 4 آب، إلى الاستسلام. سحابة الدخان التي ارتفعت بشكل هائل لم تعد هي الحدث الأبرز، الذي سارع المواطنون إلى تصويره. فالانفجار نقَلَ البلاد كلّها من مكان إلى آخر، وأوصلها إلى نقطة النهاية.. نهاية كل الأقاويل السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
غطّى الظلام الأضرار، فكشَفَها صباح يوم
الأربعاء. أضرار ظاهرة وأخرى مخفية تحت الركام، تشهد على الفساد المتراكم
والذي لم تعد مساحة البلاد تتسّع له.. فانفجر.
صعوبة الاحصاء
إنسانيّتنا
تحوِّل السؤال عن الأضرار الماديّة في حضرة الخسائر البشرية، إلى ما يشبه
التخلّي عن الأحاسيس. غير أن استقالة الدولة من مسؤولياتها تجاه مواطنيها،
تجعل من الأضرار المادية عنصراً مهماً، لأنها تسهم في تحديد مدى قتامة
مستقبل اللبنانيين. لذلك، وفي حادثة انفجار مرفأ بيروت وما نتج عنها، يصبح
البحث عن حجم الأضرار المادية وكلفتها، أمراً ضرورياً يوازي بأهميّته البحث
عن الخسائر البشرية. إذ لم يبقَ للبشر في لبنان غير ما يملكونه من
ماديّات.
لا شيء نهائياً حتى الساعة حول الأضرار، سواء في المرفأ أو في
ممتلكات اللبنانيين والممتلكات العامة. فكل ما يمكن تأكيده هو ما تراه
العين المجرّدة.
تنقسم الأضرار إلى مجموعتين، الأولى
مباشِرة والثانية غير مباشرة، وتنعكس المجموعتان بشكل كلّي على الاقتصاد
اللبناني. فالمرفأ تضرَّر بنسبة لا تقلّ عن 80 بالمئة، فضلاً عن تضرّر
المواد الاستهلاكية وغير الاستهلاكية التي كانت داخل حرمه.
خارج
المرفأ، أصيبت السيارات والمباني المجاورة وتلك البعيدة لمسافة تفوق الـ20
كيلومتراً، واختلفت حدّة الأضرار حسب القرب من موقع الانفجار. أمّا الصوَر
والفيديوهات المتداولة للانفجار وأضراره، فتخبر بما لا يقلّ عن خسائر بقيمة
100 مليون دولار كنظرة أولى، بحسب ما يقوله الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة،
الذي يشير في حديث لـ”المدن” إلى أن معرفة الكلفة الحقيقية للأضرار تحتاج
إلى وضع لائحة وفق عملية حسابية علمية، وهذا أمر مستحيل في الوقت الراهن.
الجانب
الآخر من الأزمة هو الخسائر غير المباشرة، فالأضرار الحاصلة في المرفأ لن
تسمح باستعمال ما تبقّى منه للاستيراد أو التصدير أو استقبال بضائع
الترانزيت. لذلك، يمكن القول أن مرفأ بيروت أصبح خارج الخدمة.
تحويل
الحركة من بيروت باتجاه طرابلس أو صور أو صيدا، ينطوي بحسب عجاقة على
ارتفاع للأكلاف، لأن ثقل الانتاج الصناعي موجود في بيروت وجبل لبنان، ولن
تستطيع الشركات والمؤسسات احتمال ارتفاع إضافي في كلفة الشحن إلى مرافىء
الأطراف، ونقل البضائع إلى بيروت. وعليه، تندرج الأكلاف الإضافية وتراجع
معدّلات الاستيراد والتصدير ضمن الخسائر، ويُضاف إليها ما لن تتمكّن
الشركات من تصريفه داخل السوق اللبناني، وما حُرِمَ منه مرفأ بيروت من
إيرادات تصب في خزينة الدولة.
أمّا كلفة التعويضات للضحايا وعائلاتها، فتضاف إلى الأكلاف غير المباشرة للانفجار، لكنّها تُحتسب من الفاتورة العامة.
أيضاً،
في جدول الخسائر غير المباشرة، يمكن إدراج خسائر القطاع السياحي، الذي
يعاني منذ ما قبل الانفجار. وقد قضى الانفجار على أي أمل في جذب السيّاح.
على
أنّ كل ما تقدَّم، ما زال حسابات سريعة وغير دقيقة، فوحده الإحصاء العلمي
الذي تتّضح معالمه بعد المسح الميداني، كفيل بتقديم الأرقام الحقيقية
للخسائر، التي قد تسجّل مليارات الدولارات.
بين فرنسا وبيروت
شهدت
مدينة تولوز الفرنسية في العام 2001، تفجيراً في مادة نيترات الأمونيوم
بوزن تراوح بين 300 إلى 400 طن، وقُدّرَت كلفة أضرار الانفجار بنحو 2 مليار
دولار.
في المقلب الآخر، أطنان نيترات الأمونيوم التي كانت في المخزن
رقم 12 في مرفأ بيروت، بلغت نحو 2700 طن. وعصف قوّة انفجارها وصل إلى قبرص
التي تبعد عن بيروت مسافة تزيد عن 200 كيلومتر.
هذه المقارنة استُخدِمَت لتقدير حجم
الخسائر التي قد يسجّلها لبنان خلال الأيام المقبلة. وحسب المعادلة، فإذا
كانت كلفة انفجار بقوة 400 طن كحد أقصى، هي 2 مليار دولار، فإن انفجاراً
بقوة 2700 طن، لن تقل كلفته عن 13.5 مليار دولار.
تقدّم هذه
المعادلة صورة تقريبية عمّا ينتظر لبنان. لكن، علمياً، لا يحسم حجم الكلفة
الحقيقية التي قد تقل عن 13.5 مليار دولار، لعدّة أسباب، أبرزها ترجيح
أكلاف البناء والسيارات بين لبنان وفرنسا، لصالح الأخيرة. فنوعية السيارات
والمباني المتضررة في فرنسا، أعلى من نظيرتها في لبنان، وكلفة الإنفاق على
البنى التحتية في فرنسا أعلى، وبالتالي تقدير كلفة الأضرار هناك، سيكون
أعلى ممّا سيقدّره لبنان.
لكن تبقى هذه المقارنة ضمن جدول الحسابات.
لذلك، ففي دولة مثل لبنان لديها ما يكفيها من أزمات اقتصادية واجتماعية
ونقدية، قد ترتفع كلفة الأضرار إلى ما يزيد عن 13.5 مليار دولار، بعد
احتساب كلفة السمسرات التي ستحصل عليها الشركات، التي ستتعهّد عملية إعادة
البناء، وذلك وفق منهج التحاصص السلطوي، فوحده قطاع الكهرباء سجّل هدراً
على شكل إنفاق يوازي 40 مليار دولار، من دون الوصول إلى نتيجة ملموسة، فما
بالك بكلفة أضرار جملة من القطاعات، إلى جانب أضرار المباني وتعويضات
الجرحى والقتلى؟
المواد الغذائية والدولار
مواد
غذائية كبيرة خسرها لبنان في المرفأ. كميات هائلة من القمح الذي لم يعد
صالحاً للأكل نتيجة الاحتراق أو التلوّث بالمواد الكيميائية الخطرة. تراجعٌ
لمؤشرات التحسّن الاقتصادي. إقفال طريق حيوي للاستيراد.. كلّها عوامل تسهم
في شحّ المواد الغذائية في الأسواق، ما لم تسارع الدولة إلى إيجاد الحلول
المناسبة.
أمّا سوء الأحوال الاقتصادية وتراجع
معدلات الثقة بلبنان، فسيزيد خطر ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة. كما أن
الطلب على الدولار لشراء المطلوب في عملية إصلاح الأضرار، سيزداد، ما يرفع
سعر الدولار. ولن يفلح سعي الجهات الرسمية لملاحقة المضاربين وتجّار
الدولار، لأن هؤلاء جزء من المنظومة.
ما يبقى للبنان، هو الاعتماد
على المساعدات الخارجية، وخاصة الغذائية والدوائية. لكن الاستعانة
بالمساعدات لن يحصل لمدى العمر، أي أن لبنان سيُترَك لمصيره عاجلاً أم
آجلاً، لأن المجتمع الدولي لن يبني دولة عبر المساعدات. فلبنان رفض الإصلاح
لقاء أموال واستثمارات وثقة دولية. وهو بالتالي لن يجد ما يبرر به
الاستمرار في الحصول على المساعدات، ما أن تهدأ تداعيات الانفجار، وينطلق
عدّاد الانعكاسات السلبية لما اقترفته أيدي السلطة الحاكمة.
تحديد المسؤوليات
انفَجَرَ
الفساد في مرفأ بيروت، لكنه لم يولد في المرفأ، بل ولد في كل ركن من أركان
المؤسسات التي نخرتها المنظومة الحاكمة، بما فيها إدارة المرفأ، المسؤولة
الأولى عن الانفجار لأنها قبلت بوجود هذه الكميات من المواد الكيميائية،
وسكتت على إبقائها، برغم الكتب التي وُجِّهَت إلى المعنيين، لضرورة سحب
المواد من المرفأ.
إدارة المرفأ والجمارك والقضاء والمؤسسة
العسكرية والنواب والوزراء ورؤوساء الأحزاب وقادتها، كلّهم مسؤولون بصورة
أو بأخرى. لكنّهم الخصم والحَكَم، ولُعبَتهم المفضّلة هي تشكيل لجان ورمي
المسؤوليات على بعضهم البعض، بحسب الانقسام السياسي. لكن ملفّات الفساد
التي يتورّط بها الجميع، هي ضابط الإيقاع الذي لا يسمح للاتهامات بالتحوّل
إلى إخبارات قضائية تطيح بأركان المنظومة.
لذلك، فإن وعود رئيس
الحكومة حسان دياب بمحاسبة المسؤولين عن الانفجار، هي كوعوده بالإصلاح
ومحاسبة المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية والنقدية. وأولى بشائر الوعود، هي
تكليف المتورّطين، بكشف الحقيقة. فهل يحكم هؤلاء على أنفسهم؟
لم يبقَ شيء غير الركام. كلّ لبنان بات ركاماً. أصبح أطلالاً لبلد كان يوماً يحاول بناء نفسه. لم يعد بين الاحتمالات ما يمكن التعويل عليه للنهوض. والأصعب من كل ذلك، هو اصطفاف غالبية الشعب خلف الجلاّد.
المدن