17 تشرين الأول خيبة أمل من الشعب والحكّام!
كتب السفير جان معكرون في Alkalima online
إنّ الثورات التي نجحت وتركت أثراً في تاريخ الإنسانية هي الثورة الأميركية (1765) والفرنسية (1789) والبولشفية (1917) ولئن تنوّعت في أسبابها، فإنه يوجد في ما بينها قاسم مشترك.
ولقد كان من أهم أسباب انتصار الوطنيين الأميركيين على البريطانيين في ثلاث عشرة مستعمرة فرض ضرائب كبيرة عليها دون أخذ موافقتها. أما الثورة الفرنسية فاندلعت لمحاربة استبداد الملكية وفساد نظام الحكم وفشل محاولات الإصلاح في القضاء والمالية، إضافةً إلى تزايد الضرائب على الشعب ولقد أدّت هذه الثورة إلى القضاء على نظام الإقطاع والامتيازات الاجتماعية. في حين أنّ الثورة البولشفية قادها الشعب الروسي ضدّ حكومة القيصر بسبب فشلها في إنجاز الإصلاح الزراعي، إضافةً إلى تزايد نسبة الفقراء خاصةً بين الفلاحين وعدم عدالة أجور العمّال وكذلك فشل الحكومة في حربها ضدّ اليابان 1904، ولقد أدّت هذه الثورة إلى إقامة دولةٍ شيوعية.
إنّ هذه الثورات الثلاث أفرزت ثلاثة قادة وهم “جورج واشنطن” و”نابوليون بونابرت” و”فلاديمير لينين” ولقد ساهموا جميعاً في تغيير البنية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ليس فقط في الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا بل أيضاً في العالم أجمع.
كما يمكن الاستنتاج أنّ الأسباب المشتركة بين هذه الثورات الثلاث تدور في جوهرها حول الناحية التي تمسّ مباشرةً الوضع المعيشي للشعب وهي فرض ضرائب لا تتحمّلها غالبية الطبقات الاجتماعية وفشل الحكومات في الإصلاح المالي وتزايد نسبة الفقراء.
وتعليقاً على هذا الواقع، نخلص إلى القول بأنّ الحاكم المسؤول والحريص على وطنه، هو القادر على حلّ المشاكل الأساسية التي يعاني منها الشعب والتي تؤثر مباشرةً على حياته المعيشية اليومية وهو القادر أيضاً على استباق غضبه عبر تأمين حاجياته الأساسية والاستجابة إلى مطالبه قبل أن تستفحل نقمة المواطنين وتتطور إلى انتفاضة فثورة حيث نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف ومتى وأين تنتهي.
السؤال الممكن طرحه الآن هو التالي: بعد أن نجحت ثورات عديدة في العالم، لماذا فشلت ثورة 17 تشرين الأول وهل تمّ إخمادها نهائياً أم أنها ستعود إلى تجديد نشاطها. وفي كلتا الحالتين، ما هو الحلّ؟
إنّ الدعم الشعبي الذي تلقّته ثورة 17 تشرين الأول كان كبيراً لأنّ الفقر والفساد والبطالة والغلاء أصابت غالبية الطبقة الوسطى وجميع أفراد الطبقة الفقيرة. في حين أنّ هذه الثورة قد أقلقت الطبقة الميسورة لأنها أصبحت تعيش في حالة خوف شديد على مصالحها وممّا قد يصدر ضدّها كردّة فعل عن كل من فقد عمله أو عجِزَ عن تأمين حاجياته الأساسية.
في المبدأ، يمكن القول إنّ من شروط نجاح أي ثورة توافر العناصر التالية:
– سيطرة الثورة أو الثوّار على كامل أراضي الدولة أو على القسم الأكبر منها.
– حصول الثورة على دعم غالبية الشعب سواء كان في الواقع De Facto أو في الانتخابات De Jure.
– وجود دلائل واضحة على قدرة قادة الثورة على تولّي الحكم والاستمرار فيه.
لكنّ
الوقائع تشير إلى أنّ الثورة لم تحقق أي شرط من الشروط الثلاثة أعلاه،
لأنها لم تسيطر عملياً حتى على القسم الأكبر من الدولة. كما لم تحصل على
دعم غالبية الشعب سواء كان في الواقع أو في الانتخابات التي لم تحصل بعد.
وبالتالي فإنّ هذه الثورة لم تنتج أي قائد أو قادة بارزين أظهروا شغفاً
استطاع جذب أنصار الثورة وغيرهم من المواطنين. في حين نرى أنه يتوجب على
القائد أن يكون دائماً متوقّد الشعلة في شغفه النضالي وفي حماسه النضالي
لكي يحافظ على استمرارية نشاط الثورة.
إنّ الشغف القوي هو بمثابة الوقود الضروري لثبات الالتزام الراسخ بالثورة.
إنّ
ما قام به شباب وشابات لبنان في 17 تشرين الأول عمل طبَع تاريخ لبنان
السياسي الذي لم يشهد مثيلاً له سواء كان من حيث جرأة المنتفضين في انتقاد
وتحدّي السلطة أو من حيث تسليط الأضواء على فداحة الفساد والإهمال الحاصل
في إدارة الأموال العامة، وكذلك على فشل الحكومات في حلّ مشاكل الكهرباء
وإصلاح البنية التحتية وأزمة البطالة وغلاء أسعار المواد الاستهلاكية
وتصاعد حجم الدين العام.
لقد تحمّل الثوّار أو من شاركَ في الحراك
الشعبي مشقّاتٍ جمّة وصعبة للغاية عند التظاهر في الشوارع والطرقات
والساحات العامة وإنهم يستحقون كل احترام وتقدير لأنهم طالبوا بحقوقٍ
مشروعة لجميع المواطنين.
ولكن كان من الأفضل ألاّ يَعمدوا إلى إقفال
الطرقات العامة وأن يتقيّدوا بالنقد الموضوعي. كما يؤخذ على السلطة تماديها
المفرط في التعرّض للمتظاهرين، فالقوة التي لاحظناها في مجابهتهم كانت غير
مألوفة ولقد أدّت حقيقةً إلى إيقاع الرعب في نفوسهم لا بل إلى إذلالهم
وإيذائهم. هذا مع العلم أنّ أداء السلطة هذا غير المسبوق سيكون موضع لَوم
وانتقاد من قبل المنظمات الدولية لحقوق الإنسان.
وتجب الملاحظة هنا إلى
أنّ الخاسر الأول والمتضرر الأكبر خلال هذه الانتفاضة هو الشعب بكباره
وصغاره الذين تحمّلوا عناء التظاهرات وبشاعة الإهانات ووجع الضربات لدى
مجابهتهم القوى الأمنية وغيرها من القوى الدخيلة.
أما الخاسر الثاني فهو بلا شكّ الجهات الأمنية اللبنانية التي أُحرجت إلى أقصى الدرجات عندما تصدّت للمتظاهرين من إخوتهم في الوطن.
ولقد
استُهلكت هذه القوى الأمنية من دون أي فائدة، ليس فقط مادياً بل أيضاً
معنوياً وذلك بفعل اضطرارها إلى استعمال القوة المفرطة ضدّ متظاهرين طالبوا
بحقوق مشروعة يستفيد منها جميع أبناء الوطن وخاصةً أفراد القوى الأمنية.
ونرى
أنه كان أجدر بالثوّار أن يتظاهروا ويعبّروا عن رأيهم في أماكن محددة لا
تعيق سير العمل اليومي للمواطن الساعي إلى تأمين معيشة عائلته في ظلّ ظروفٍ
صعبة للغاية. وكان أيضاً من الأفضل أن تبقى الثورة في إطارها الحضاري من
حيث طريقة الانتقاد لأنّ البيئة الاجتماعية والسياسية في لبنان لا تسمح
بنجاح أي ثورة بالقوة والدليل هو الحصيلة الهزيلة والمؤلمة التي نتجت عنها:
– السياسيون ما زالوا هم ذاتهم في مواقفهم.
– عجز السياسيين عن القيام بأي مبادرة إصلاحية.
– قتلى وجرحى لدى المواطنين والجهات الأمنية.
– تضاعف الانهيار الاقتصادي والمالي.
استناداً
إلى ما تقدّم، لا بدّ لنا من الاقتناع بأنّ التغيير يجب أن يبدأ من فوق أي
من قبل القادة السياسيين وعليهم أن يكونوا على مستوى التحديات. ومن
المسلّم به أنه كلما عظُمت التحديات تعاظمت لهم فرصة صنع التاريخ بمعنى أن
يجعلوا الأشياء تحدث بدلاً من انتظارها تحدث تلقائياً وقد لا تسمح الظروف
بحصولها. فالعبرة تكمن في اتخاذ مبادرات جريئة منتجة وفاعلة لدى تنفيذها.
وفي هذا السياق، نتساءل هل إنّ الفرص العظيمة تصنع رجال الدولة؟ للإجابة على هذا التساؤل، نستعين بالرئيس “تيودور روزفلت” عندما قال:
“If there is no great occasion, you don’t get the great statesman”.
وأضاف “روزفلت” في معرِض تعليقه بتهكّم على “أبراهام لنكولن” الذي استطاع في ظلّ ظروفٍ صعبة للغاية إعادة الولايات التي انفصلت إلى الاتحاد (1861-1865) فذكر “أنه لو عاش أبراهام لينكولن في زمن السلم لما كان أحدٌ عرف اسمه”.
إنّ التاريخ يبين أنه نادراً ما كان المسؤول السياسي قادراً على مجابهة الأوضاع الصعبة والمعقّدة بنجاح، إذ قد يَصلُح القائد في زمن الحرب ولا يصلح في زمن السلم والعكس صحيح. لكن من المنطق القول أنّ الظروف الاستثنائية تستلزم قادةً استثنائيين يتمتعون بصفات استثنائية مثل الذكاء الحادّ والدهاء الإيجابي والخبرة الطويلة والقدرة على التبصّر لإدراك مستقبلٍ أفضل وعلى ابتكار مبادرات متقدمة لكي تنطبق عليه صفة رجل الأزمات.
ونعتقد
أيضاً أنه على الحاكم أو القائد أن يُحيط نفسه بفريق عمل متعدد الثقافات
ومؤلف من مستقلّين عقلاء وأصحاب خبرة في الحياة العامة على أن يكونوا
متفوّقين عليه بالعلم والفكر والسمعة. ونرى هنا أنه من المفيد أن يتّخذ أي
سياسي لبناني قراراً حاسماً عند الاقتضاء، كالقرار الذي اتّخذه “أبراهام
لينكولن” عندما استلم الرئاسة في العام 1861، وحين واجه برلماناً منقسماً
إثر انفصال سبع ولايات جنوبية على الاتحاد، قام بتأليف فريق عمل من وزراء
الخارجية والمالية والدفاع رغم أنهم كانوا جميعهم من المنافسين له في تولّي
الرئاسة. في حين تصرّف قبله الرئيس James Buchanan “جيمس بوكانان” عندما
واجه مشكلة مماثلة بشكلٍ مغاير فاختار فريق عمل تألّف من مسؤولين تابعين له
وغير قادرين على مناقشته في أي موقف يتّخذه.
وعندما سُئل “أبراهام
لينكولن” عن الحكمة في اختيار فريق عمله بهذه الطريقة الراقية، أجاب: “The
country was in peril. These were the strongest and most able men in the
country”.
أي أنّ الوطن في خطر فهؤلاء الرجال هم الأقوى والأكثر كفاءةً
في الوطن. وبذلك، يكون “لينكولن” قد التزم بمعيار الكفاءة دون غيره وأبان
حقاً عن مسؤوليةٍ وطنية كبيرة، لأنه كان خائفاً على مصير الوطن وشعبه. نعم،
هكذا يجب أن يتصرّف الحكّام.
احتراماً للموضوعية، لا يمكن الجزم بأنّ
صنع التاريخ يشترط فقط بروز ظروفٍ استثنائية لأنه يمكن لرجل الدولة أن
يحدثَ فرقاً خلال حكمه وفي ظروفٍ عادية جداً، إذا تمكّن من اتخاذ مبادراتٍ
متقدمة ومواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية، يستفيد منها المواطن وتساهم
حقاً في نموّ المجتمع خاصةً في مجالات تطوير الصناعة والزراعة والاقتصاد
والتأمينات والضمانات الاجتماعية والصحية.
ونختم أخيراً بهذه المقولة
الهامة والمعبّرة لرجل الأعمال الأميركي Ray Kroc الذي شارك في تأسيس ونجاح
ماكدونالد عام 1954 والذي صنّفته مجلة التايم من ضمن أهمّ 100 شخصية في
القرن العشرين:
“As long as you are green, you are growing. As soon as you are ripe, you start to rot”.
ويُستفاد من هذه العبارة أنه على كل مسؤول أو سياسي أن يفسح في المجال لغيره عندما يلاحظ أنه توقّف عن الإنتاج والإبداع.