السعودية والحريري: تعويض الأخطاء المميتة بتحوّل استراتيجي بسوريا
كتب منير الربيع في المدن
لا يصدر نقد سعد الحريري سياسيًا عن اعتبارات شخصية، ولا يتعلق بشخصه. فهو أحد أبرز العاملين في الشأن العام في أشد المراحل حساسية في تاريخ لبنان. ومن اختار لنفسه هذا الدور لا بد من أن تتعرض مواقفه للمراجعة والنقد. وهو اعترف مرارًا بأنه أخطأ في التقدير والخيارات، وندم على خطوات أقدم عليها وثبُت أنها خاطئة، بل قاتلة.
نقد الحريري إطاره لبناني صرف ومعياره المسؤولية الوطنية. وبناءً على مبدأ الدولة وسيادتها، غير مقبولة الاعتراضات السياسية الخارجية على الحريري وأدائه، ولا مقبولة المواقف التي تملي عليه ما يتوجب فعله. وهذا من المسلمات في معايير الدول وسيادتها. رغم تضاؤل سيادة الدول المطلقة في النظام العالمي القائم، طالما أن السياسات الإقليمية والدولية أصبحت خاضعة لمنطق التحالفات والمحاور. وفي المعايير اللبنانية الصرفة لا بد من الاعتراض على الهجوم الذي يتعرّض له الحريري من الخارج، مع الاحتفاظ بالاعتراض على أدائه داخليًا.
السعودية والحريري
لكن في معايير السياسة الإقليمية والدولية -وفي ظل اختيار فريق سياسي الانضواء في محور إقليمي- فلا بد له أن يكون خاضعًا للمعايير التي تفرضها الجهة المتحالفة معه.
لا ينطبق هذا على الحريري فقط ولا على لبنان، بل هو أمر مشهود وملموس من العراق إلى سوريا واليمن ولبنان، حيث تنقسم المجتمعات إلى فرق متعددة، بعضها محسوب على إيران وبعضها الآخر على السعودية، وهناك من يحفظ استقلاليته. لذلك يخضع النقد الذي يتعرض له الحريري من السعوديين لمعايير ذلك التحالف الإقليمي. وهناك مسار طويل من تقاذف التهم الصامتة حول من يتحمل مسؤولية خسارة هذا المحور أو تراجعه. وهنا لا بد من استكمال قراءة الحقبة السياسية التي يمثلها الحريري في مرحلة توأمته مع السياسة السعودية، والتي وفرت له الحاضنة الأكبر بعد اغتيال والده في العام 2005. وعليه لا يتحمل سعد الحريري وحده مسؤولية خسارة هذا المحور أو تراجعه في لبنان.
السعودية وحزب الله
لا بد من العودة إلى التحالف الرباعي في العام 2005، والذي خضع لتقييم متناقض: هناك من يعتبره خطأ. وهناك من يعتبره صحيحًا لتجنّب الفتنة التي قد تنجم عن عزل حزب الله. تدرّج المسار بعد ذلك، وكانت السعودية على علاقة جيدة بحزب الله، وحصلت لقاءات عدة في الرياض بعد حرب تموز 2006 حول المحكمة الدولية والتسوية السياسية، حضرها ممثلون عن حزب الله وحركة أمل. آنذاك كانت السعودية قادرة على لعب دور الوسيط بين الطرفين. وهنا يعود الجميع إلى التهم المتبادلة. فالبعض يعتبر أن أطرافًا في قوى 14 آذار عملت بكل قوتها لقطع التواصل بين السعودية والثنائي الشيعي. آخرون يعتبرون أن السعودية اختارت هذا المسار التصعيدي فتحولت إلى طرف في المعادلة اللبنانية.
ومع التأزم الكبير في 7 أيار 2008 نجحت دولة قطر بلعب دور الوسيط، فاستضافت الحوار الذي كان من المفترض أن تستضيفه السعودية وتكون راعية له. لكن أحداث 7 أيار لا تزال بحاجة إلى الكثير من المعطيات لمعرفة أسرارها. فهناك من يعتبر أن أطرافًا لبنانية كانت مندفعة لمواجهة حزب الله، أو أن جهات خارجية دفعت اللبنانيين إلى ذلك، فاستفاد الحزب عينه عسكريًا وسياسيًا.
مصالحة الأسد أم احتواؤه؟المشكلة السياسية الأكبر كانت في مبادرة سين-سين، والتي كان لها الكثير من المقدمات. فمع فوز قوى 14 آذار بالأكثرية في انتخابات العام 2009، أعلن الرئيس سعد الحريري أنه لا يريد الفتنة ويريد تشكيل حكومة وحدة وطنية. تزامنًا مع ذلك كان النظام السوري يستعيد بعضًا من شرعيته الدولية انطلاقًا من السياسة التي انتهجها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.
بعد الانتخابات فوجئ الحريري بطلب إقليمي ودولي أرغمه على زيارة سوريا ووقف التهجم السياسي على بشار الأسد. كان ذلك بناء على توجه سعودي ينطلق من فكرة استعادة الأسد من الحضن الإيراني. وكانت هذه سياسة خاطئة وقاتلة، أسهمت في دفن المشروع السياسي لقوى 14 آذار. آنذاك عاد الحريري من السعودية إلى لبنان على درجة عالية من الاستياء والرفض. عقد اجتماعًا لقوى 14 آذار للتفكير في إيجاد صيغة للتعامل مع هذا المقترح برفض لا يدفع السعودية إلى الغضب والاستياء. طُلب من الحريري انتزاع موافقة أطراف وقيادات 14 آذار جمبعًا على هذا الأمر. وأحسن الحريري الموقف في تأجيله الإعلان عن تلك الصاعقة. لكنه أخطأ بعد ذلك في مسألة أساسية: إصراره على تولي رئاسة الحكومة. نصحه الملك عبد الله بالإقلاع عن هذه الفكرة، لأن رئاسة الحكومة تعني تخليه عن المحكمة الدولية. ووقع الحريري في ما رفضه سابقًا.
عمليًا تتحمل السياسة الإقليمية والدولية مسؤولية ذلك. فالجو الدولي هو الذي ورّط اللبنانيين في أحداث 7 أيار، وفي إعادة تعويم بشار الأسد. وهذا استفادت منه إيران كما استفادت من اجتياح العراق. أما الخطأ السعودي فكان في الموافقة على ذلك ومجاراته.
الربيع العربي وسلبياته على لبنان
المحطّة الفصل كانت انفجار الربيع العربي في نهاية العام 2010 وتوسعه إلى مصر في العام 2011. تراجعت الأولوية اللبنانية سعوديًا، وانصب الاهتمام السعودي على مواجهة الأخوان المسلمين، وما يجري في البحرين واليمن ومصر. فهذه الدول تعتبر من حواضن الأمن القومي السعودي. وبدأ التراجع السعودي في لبنان بعد خطأ تعويم النظام السوري والسين-سين، وتجلى بالانقلاب على حكومة الحريري وفرض حزب الله والتيار العوني حكومتهما. وعرفت إيران كيف تستغل السعودية المنشغلة بتلك الحوادث.
واندلعت الثورة السورية، فتعاطت معها دول الخليج بداية بكثير من الحماسة التي سرعان ما تراجعت على وقع الرفض الدولي لدعم المعارضة وإسقاط النظام السوري. وهنا كان الخطأ السعودي الثاني: عدم الإقدام على دعم المعارضة وانتاج جسم بديل كما فعلت في اليمن وفي البحرين، انطلاقًا من معارضة التوجهات الأميركية التي عارضتها السعودية في مصر وفي البحرين.
سقطت الثورة السورية، وتراجع اهتمام السعودية بلبنان، فيما إيران تتمدد على مرأى العالم ووفق السياسة التي اعتمدها باراك أوباما. وهذا كله انعكس سلبًا على لبنان، فحقق حزب الله انتصارات سياسية وعسكرية فيه وفي سوريا، على وقع التراجع العربي والخليجي.
محاصصات 14 آذار والتسوية الرئاسية
وبدأت حرب اليمن التي استحوذت على الاهتمام السعودي كله، باعتباره أساسيًا في الأمن القومي. هذا فيما كان الأفرقاء اللبنانيون يقترفون الأخطاء تلو الأخطاء، غارقين في الصراع على الحصص والمكاسب، وتركز سعيهم على الوصول إلى السلطة بعيدًا عن الخطّ والمسار الاستراتيجي. وهنا يتحمل ثلاثي قوى 14 آذار المسؤولية: تيار المستقبل، القوات اللبنانية، والحزب التقدمي الاشتراكي. فيما أخطأ الحريري بمغادرته لبنان، عندما حصل الانقلاب على حكومته، ما أدى إلى ترهل تيار المستقبل وإضعافه.
وحلّت الكوارث السياسية بذهاب الحريري إلى إبرام التسوية الرئاسية مع ميشال عون وجبران باسيل. هنا أيضًا ثمة مسؤولية سعودية. فهي لم ترفض التسوية بوضوح في العام 2016، كما فرضت رفضها في العام 2014 عن طريق الوزير الراحل سعود الفيصل. وهكذا تكرس انتصار حزب الله السياسي بانتخاب حليفه ميشال عون رئيسًا للجمهورية. حصل ذلك في سياق دولي-إقليمي عنوانه الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. لم تعلن السعودية موقفًا واضحًا من التسوية، حتى أنها حاولت مباركتها في أيامها الأولى. وكانت زيارة عون الرئاسية الخارجية الأولى إلى السعودية.
سوريا البوابة
وأساء الحريري إدارة التسوية. وكانت أزمة استقالته من الرياض الخطأ الأكبر. وأدى ذلك إلى إضعاف السنّة في لبنان بغض النظر عن مسار الحريري السياسي. وكان ضعفهم ترجمة عملية للضعف السنّي في المنطقة كلها، من العراق إلى سوريا وصولًا إلى لبنان، إضافة إلى ضعف سياسي سنّي إقليمي بنتيجة الاتفاق النووي، وانشغال السعودية بتداعيات الربيع العربي. ولم تخرج السعودية بمشروع استراتيجي متكامل خاص بالدول العربية. ووقعت أزمة العلاقات الخليجية- الخليجية وأزمة العلاقات السعودية- التركية التي انعكست تراجعًا وانهيارًا وتدهورًا في سوريا لصالح ايران والنظام السوري.
ومنذ أكثر من سنة لا تبدي السعودية اهتمامًا بلبنان. وهذا خطأ سياسي يضاف إلى أخطاء كثيرة لبنانية وخارجية. ولم يحسن الحريري قراءة المواقف ولا إدارة سياسته بين استقالة بعد 17 تشرين، وترشيح نفسه لرئاسة الحكومة، وعدم قدرته على تشكيلها، وصولًا إلى لحظة سحب السفراء من لبنان. فيما كان الجواب السعودي واضحًا لكل من يحاول إثارة الملف اللبناني معهم: نحن غير معنيين بلبنان.
ونجحت المبادرة الفرنسية في إعادة الاهتمام السعودي بلبنان، والاهتمام بالانتخابات النيابية. وهذا جاء متأخرًا إلى ما بعد تشكيل اللوائح. ولو حصلت العودة السعودية قبل تشكيلها لكان الأمر أفضل بكثير. وتحاول السعودية حاليًا إعادة تصحيح المسار بدفع السنّة إلى المشاركة في التصويت بقوة وفاعلية لتعديل ميزان القوى.
في الخلاصة، أخطأ سعد الحريري سياسيًا، وأضعف نفسه. لكن أيضًا في المقابل لا يمكن إغفال الأخطاء الإقليمية والدولية. والأهم هو التعلّم من الأخطاء وإعادة انتاج مشروع سياسي قادر على استعادة التوازن. ليس في لبنان فقط بل في كل المنطقة. وركيزة هذا التوازن لا بد من استعادتها انطلاقًا من الساحة السورية. فهي مفتاح الحلّ والربط. والأهم الإقلاع عن الأخطاء السابقة: التوهم بسحب النظام السوري من الحضن الإيراني. أو صناعة وهم جديد بتعويم النظام وإعادته إلى الجامعة العربية.
لذلك يمكن إدراج العودة السعودية إلى لبنان والاهتمام بالانتخابات كجزء من تجميع الأوراق استعدادًا لمرحلة إقليمية مقبلة على التفاوض أو الاشتباك. والمهم لكل طرف أن يمتلك أكبر عدد ممكن من الأوراق، سواء انتخابيًا في لبنان، أو في مسار لا بد منه على الصعيد السوري من خارج أوهام تعويم النظام، أو انتظار ما يمكن أن يقدّمه الآخرون للمجتمع الدولي، بل بفرض ما يُراد تحقيقه وليس انتظار منح الآخرين.