الحريري “الخائب” يتحول خطراً انتحارياً لسنّة لبنان
كتب منير الربيع في المدن
من أقوى المؤشرات على انحدار المجتمع اللبناني نحو التفاهة السياسية، تلك الاشتباكات التي تفتعلها جماعات الأحزاب والقوى السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي. وهي غالبًا ما تشتد على أبواب المعارك الانتخابية. والمشكلة في هذا المجال تتمثل في أن شطرًا من جمهور البيئة السنية يعيش حالة ضياع، أو يأس وإحباط، أو تعاطف مع سعد الحريري.
حقب صناعة التفاهة
طوال السنوات التي سبقت التسوية الرئاسية في العام 2016، لم تكن التفاهة السياسية متفشية في تيار المستقبل، وفق ما يحتّمها استخدام سيء لوسائل التواصل الاجتماعي على مثال لبناني: تخوين الخصوم، وتركيز الحملات الدعائية سلبًا وإيجابًا، من ناشطي هذه الوسائل الذين تحولوا جيوشًا الكترونية.
بين العامين 2005 و2016 كان السنّة في لبنان خارج نطاق مثل هذا النوع من الانحدار، فيما كان حزب الله يتقدّم الجميع في معارك إلكترونية يخوضها لتشويه سمعة خصومه وتخوينهم وتهديدهم، وصولًا إلى صناعة “أسطورة” شيعة السفارة وغيرها. والتحق التيار العوني وجمهوره بحزب الله وأسلوب عمله وآلية خوضه معارك تشويه الخصوم وادعاء النبوة الذاتية.
لطالما كان جمهور المستقبل والبيئة السنية يعبرون عن نوع من القرف من هذه الأشكال والأساليب. لكن هذا الجمهور يغرّق اليوم في هذه الترهات: تخوين أي معترض على موقف الحريري، أو أي معارض لخيار سياسي يريده، أو منتقد لموقف سياسي اتخذه. لقد أصبح لدى تيار المستقبل جيش الكتروني يعمل على توزيع الشتائم وشن الحملات. والمبرر الأساسي لذلك محاولات الدفاع عن الحريري واختياره التسوية الرئاسية ومندرجاتها التي أدت إلى تسليم مقدرات البلد إلى رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، فقط لحيازة موقع رئاسة الحكومة وانتهاج اتفاقيات المصالح والصفقات.
تأريخ التسويات الخائبة
استعر هذا النوع من المعارك الإلكترونية سنيًا بعد ثورة 17 تشرين وإعلان الحريري عزوفه عن خوض الانتخابات النيابية. لذا أصبح كل طرف يريد المشاركة في الانتخابات أو يدعو إلى التصويت بكثافة، إما جاحدًا وإما خائنًا وإما متآمرًا. والأغرب أن من يشنّون الحملات يعلنون مواقف تقول إن الحريري قرر المقاطعة كي يحجب الشرعية عن حزب الله، علمًا أن حزب الله حصل على الشرعية السياسية الأوسع منذ قرار التسوية الرئاسية وقانون الانتخاب وانتخابات العام 2018، وبعدها لدى تشكيل الحريري الحكومة وانضوائه في السياق الذي رسمه حزب الله.
فلنفترض أن قرار المستقبل بالمقاطعة جاء رد فعل على 17 تشرين، عندما لجأ حزب الله بكل قوته إلى الإطاحة بالانتفاضة. لكن ماذا عن قرار الحريري حول إعادة ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة التي لم ينجح بتشكيلها؟ ألم يكن في حينها لبنان خاضعًا لسيطرة حزب الله؟ ولماذا يدّعي هؤلاء أن جموع المستقبليين في الخارج سجلوا أسماءهم للاقتراع في الانتخابات قبل قرار الحريري بالعزوف؟ ألم يكن هناك رؤية واضحة حول سيطرة حزب الله؟
عمليًا، هذه المسوغات كلها لا تخرج عن سياق الموقف الشخصي والعاطفي. وهؤلاء أنفسهم كانوا يشتمون كل من عارض وانتقد اختيار سعد الحريري التسوية الرئاسية. وحاليًا يبررون قرار المقاطعة بأنه تعبير عن الرفض المستقبلي لسيطرة حزب الله على البلد، وينتقدون من عقد معهم الحريري نفسه أسوأ التسويات في تاريخ لبنان.
تعليقًا على تحميل القوات اللبنانية المسؤولية عن إجبارها الحريري على الذهاب إلى التسوية، بعدما تبنى سمير جعجع خيار ميشال عون، لا بد من التوكيد على ما يلي: أولًا، القوات اللبنانية تتحمل المسؤولية، ولا بد من إدانة موقفها السياسي العام والتفصيلي. ثانيًا، أخطأ سعد الحريري عندما انصاع للقوات في هذا الأمر. فقد كان بإمكانه عدم الموافقة. ثالثًا والأهم، لم تكن القوات هي المسؤولة عن خيار ميشال عون، ولا داعي للدخول في تفاصيل ترشيح فرنجية، وغيرها من الخيارات التافهة. فالمباحثات والمفاوضات بين سعد الحريري وميشال عون كانت قد بدأت في أواخر العام 2013، وتركزت أكثر في العام 2014، وعقدت لقاءات كثيرة بعضها في روما وآخرها في باريس بين الحريري وعون وباسيل. وكان السعي فيها لإبرام اتفاق سياسي شامل بينهما. ومن عمل آنذاك على عرقلة الاتفاق هو وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل، والذي بعد وفاته قال عون في أوساطه: “لقد مات من منعني من الوصول إلى الرئاسة”.
أزمة السنّة وتجربة الحريري
يغرق جمهور المستقبل أو جزء كبير من الجمهور السنّي في ضياع كبير على مسافة أيام قليلة من الانتخابات النيابية، فيذهب في تخوين الجميع. ووفق منطق طفولي يعتبر هؤلاء أن رفيق الحريري هو من حصتهم وحدهم، وكل من عاصروه ورافقوه وعارضوا قرار سعد الحريري هم في عداد الخونة. والأخطر على جمهور المستقبل هو ربط المصير السياسي بمصير شخص، سواء كان سعد الحريري أو سواه. علمًا أن هذا الجمهور انتفض لدماء رفيق الحريري وعزز شرعية سعد وموقعه السياسي، وحقق انجازات سياسية هائلة، فُرِّط بها على أعتاب التسويات. وربما هي تسويات لا بد منها، شريطة حسن إدارتها.
أزمة السنّة في هذه المرحلة ليست أزمة اقتصادية ومعيشية ومالية فحسب، على الرغم من خطورة هذه الأزمات الداهمة. فالأزمة الحقيقية تتجلى في الضياع السياسي، وفي انعدام القدرة على تكوين رأي سياسي، أو موقف قادر على استعادة تشكيل محور سياسي للمرحلة المقبلة. وتجربة سعد الحريري تحتاج إلى مراجعة قاسية، منذ ما قبل تسوية 2016 وبعدها: سوء إدارته كل مقدرات الدولة العميقة وتسليمها للتيار العوني. ولا داعي هنا للتذكير بتعيينات كثيرة، وبقانون الانتخاب والذي يتحمّل المسؤولية المباشرة عن إقراره. فلو رفضه لما نجح الآخرون في تمريره. وبعد أن راجعته شخصيات كثيرة، قال لهم الحريري: “لا ينتظر منّي أحد منكم أن أختلف مع ميشال عون، أو أن أقدم على ما يزعجه”.
الندم ماضيًا ومستقبلًا
خلاصة القول: لا يمكن للسنّة الركون إلى مثل هذه الحملات التي يقوم بها بعض الطفوليين، الذين يحصرون معركة سياسية بجوانب شخصية أو مصلحية. وعلى من يقول إن المعركة الانتخابية لن تؤدي إلى تغيير كبير، يمكن الرد بأن هناك فرصة حقيقية لحرمان حزب الله من حصوله على الأكثرية النيابية. وهذا يرتبط بمدى مشاركة السنة الكثيفة في التصويت. والأهم أن لبنان مقبل على توازنات جديدة. وهناك أهمية قصوى لعدد المقاعد النيابية من حلفاء حزب الله ومعارضيه، ليس في سبيل تغيير سريع، بل لحجز المقاعد الأساسية لحين اقتراب موعد أي تسوية سياسية. فحزب الله يخوض هذه المعركة الانتخابية وجوديًا، ليقول للجميع إنه نجح في خرق السنّة والدروز والمسيحيين، وأنه بعد كل ما جرى لا يزال يتمتع بأكثرية تمنحه الشرعية.
في جلسة عقدت قبل مدة بين أحد المؤسسين البارزين لتيار المستقبل، وهو منخرط في العملية الانتخابية حاليًا مع عدد من كوادر التيار، حاول الكوادر الاعتراض على المشاركة في الانتخابات، واعتبروا أن قرار سعد الحريري هو الأمثل في المقاطعة. لكن المسؤول المستقبلي المؤسس قاطعهم قائلًا: “منذ سنوات طويلة نختلف مع الحريري وتوجهاته وسياسته، فهل وجدتم مرّة أن الحق كان معه؟ أم أنه غالبًا ما عبّر عن ندمه؟ الخشية حاليًا أن يقود خيار الحريري في محاربة كل من يخوض الانتخابات في وجه حزب الله إلى الندم مجددًا”.