إيكونوميست” عن “تجارة النّفط السريّة التي تموّل حروب إيران” (2/2)
ما هو النظام الذي من خلاله تبيع إيران نفطها بطريقة سريّة، وتقبض ثمنه، وتوزّعه على ميليشياتها، خارج النظام المصرفي الدولي؟ وكيف تستطيع إدارة هذه العملية المعقّدة، عبر الكوكب، من دون أن تكشفها أو تتمكّن العيون الغربية من منعها؟ وهل يمكن للبلدان التي تفرض عليها عقوبات أن توقف هذه الدولة التي تنتج لها عشرات مليارات الدولارات سنوياً لتوزيعها على الحرس الثوري وعلى أذرعها في المنطقة؟
في الجزء الثاني، كيف تصل إيران إلى النظام المالي الدولي بمساعدة الصينيين؟
البنوك التي تمتلك فيها حساباتٍ الشركاتُ الوهمية، التي تعمل “واجهات” لإيران، والتي تعمل على التحويلات، تسمح لإيران بالوصول إلى النظام المالي الدولي. يصرّ العديد من الخبراء الغربيين على أنّ الشركات الواجهة الإيرانية يديرها بالكامل تقريباً مقرضون صينيون إقليميون لا يمارسون أيّ أعمال تجارية في الغرب، وبالتالي هم محصّنون ضدّ الانتقام الأميركي. وبنك كونلون، البنك الصيني الوحيد الخاضع للعقوبات المرتبطة بإيران، مسجّل في شينجيانغ، وهي مقاطعة نائية للغاية.
لكنّ بعض خبراء الامتثال المصرفي أفادوا أنّه يتمّ أيضاً استخدام المؤسّسات الكبيرة بهذه الطريقة. واستناداً إلى تسريبات من شركة نفط إيرانية، أدرج موقع “ويكي إيران” في نيسان من العام الماضي تفاصيل 218 حساباً مصرفياً مرتبطاً بـ 71 صندوقاً تديرها شركة “أمين”، وهي واحدة من أكبر شركات الصرافة في إيران. وتشير مراجعة لقاعدة البيانات المرتبطة إلى أنّ 67 من هذه الحسابات فقط استضافها بنك صيني صغير. ومن بين بقيّة الحسابات، كان 99 حساباً في أحد أكبر 20 مصرفاً في الصين. وبمراجعة أرقام الحسابات الأخرى من خلال IBAN Checker، وهو موقع إلكتروني يتحقّق من تفاصيل البنوك، تبيّن أنّ 30 حساباً كانت موجودة في الإمارات العربية المتحدة، بما في ذلك أكبر بنكين في البلاد، وعشرة حسابات كانت في بنوك أوروبية هي CBC وING وOTP وCommerzbank، وثلاثة بنوك ادّخار ألمانية، وخمسة أخرى كانت في بنوك تركية. وكان اثنان في شركات التكنولوجيا المالية الأوروبية Paysera وWise التي تتعامل مع المدفوعات عبر الحدود.
الصين – هونغ كونغ – إيران
لا يوجد ما يشير إلى أنّ البنوك أو شركات التكنولوجيا المالية كانت تعلم أنّها تتعامل مع شركات واجهة تعمل نيابة عن إيران. وردّاً على رسائل البريد الإلكتروني من معدّي تحقيق المجلّة، قالت CBC وWise إنّهما لا تستطيعان التعليق على الحسابات الفردية. وقالت ING إنّها بدأت تحقيقاً داخلياً العام الماضي كشف عن معاملات مع كيانات مذكورة على موقع “ويكي إيران” Wiki Iran وأسفرت عن إغلاق الحسابات في وحدتها البلجيكية. وقالت OTP إنّ الحسابات ذات الصلة أُغلقت في آب 2019.
في المقابل، تُظهر المستندات التي حصلت عليها المجلّة أنّه في وقت ما، على الأقلّ منذ عام 2021، كان للشركات الواجهة التي تسهّل أو تطلب المدفوعات المرتبطة بتجارة النفط الإيرانية حسابات في Citibank في هونغ كونغ، وHSBC في هونغ كونغ، وأكبر أربعة بنوك في الصين. لا يوجد ما يشير إلى أنّ البنوك كانت تعلم أنّها كانت تتعامل مع شركات واجهة تعمل نيابة عن إيران. لكن يكشف التحقيق أنّ عدداً من الشركات الواجهة تمكّنت من التهرّب من أساليب التحقّق التي تستخدمها البنوك. ومعظم هذه الحسابات بعضها مقوّمة بالدولار، وبعضها الآخر باليورو. وتُظهِر إيصالات المعاملات أنّ الشركات الواجهة الإيرانية تستخدم بعض المقرضين العالميين كـ”مراسلين”، وهي البنوك الدولية التي تقوم بتسوية معاملات العملات الأجنبية للبنوك الأصغر حجماً من خلال المراكز المالية الكبرى.
غالباً ما تستخدم البنوك الصينية البترودولار، حيث يحتفظ مشترو النفط بأموالهم، ويكون ترتيب التحويل المحلّي أكثر تحفّظاً من إرسال الأموال إلى الخارج. ثمّ يسمح غموض النظام المصرفي الصيني للبورصات الإيرانية بتداول الأموال في القارّة مع تدقيق أقلّ. وبالنسبة للمصرفيين المحلّيين، الأمر أشبه “بأيّ نوع آخر من تجارة السلع الأساسية”، كما تقول جوستين ووكر من جمعية المتخصّصين المعتمدين في مكافحة غسل الأموال.
تتمتّع البنوك الصينية الكبرى بجاذبية أخرى: فروعها في هونغ كونغ، حيث تلتقي حلقة المال المغلقة في الصين بالتمويل العالمي. وتعدّ المنطقة موطناً لنظام المقاصّة الوحيد المهمّ بالدولار خارج أميركا. ويسمح نظام USD CHATS، الذي يعمل من خلال حسابات تموّلها البنوك بالدولار، للأعضاء بإجراء المعاملات بالدولار دون المرور عبر المؤسّسات في أميركا. وتستخدمه جميع البنوك الدولية التي لديها أعمال لائقة في آسيا، بما في ذلك تسعة من أكبر عشرة بنوك في الصين. ولا يُطلب من هذه البنوك ولا من بنك HSBC، الذي يدير النظام، الإبلاغ عن المعاملات إلى العمّ سام.
التّمويل الوهميّ: أميركا عاجزة؟
بموجب اتفاقية مع الولايات المتحدة، يجب على بنوك هونغ كونغ التحقّق من أنّ المدفوعات التي تسدّدها من خلال CHATS تتوافق مع العقوبات الأميركية حتى لو لم تطبّقها هونغ كونغ. وفقاً لديفيد آشر من معهد هدسون للأبحاث، فإنّ عدم قدرة أميركا على التحكّم في المعاملات يترك مجالاً للمناورة. في العام الماضي، عالج النظام ما معدّله 60 مليار دولار من المدفوعات يومياً، وهو حجم يجعل من الصعب اكتشاف المعاملات المشبوهة.
في مرحلة لاحقة من رحلتها، قد تنتقل أموال إيران عبر مراكز مالية أخرى. وتشير الوثائق التي تسرّبت إلى “ويكي إيران” إلى أنّه قبل شهر أيار، استضاف فرع بنك مصر في دبي، وهو بنك مصري، ما يصل إلى 38 شركة واجهة تستخدمها الذراع المالية لشركة “بي.سي.سي”، وهي شركة تصدير البتروكيمياويات. وتستخدم بعض شركات الصيرفة الإمارات العربية المتحدة لتحويل الأموال بين صناديق الائتمان من أجل الحفاظ على توازن الحسابات، وغالباً بعد تحويل الدولارات إلى دراهم، كما يوضح أحد المصادر. وتتنقّل حزم الأوراق النقدية بين البنوك. وتحتفظ بعض شركات الصرافة بـ”خزائن نقدية” لشحن الحسابات.
بحسب مصادر التحقيق، لا يتمّ التقاط العلامات التي ينبغي أن تثير الحذر في العديد من البنوك التي تستضيف شركات وهمية. وقد يكون المالكون المسجّلون من مواطني الفلبين أو الهند الذين لا يحملون مؤهّلات مناسبة. وعند التفتيش، قد يبدو سلوك الحسابات غريباً، حيث تتلقّى الشركة أموالاً من تجارة النفط وتقوم بدفعات لأشياء غير ذات صلة. ويقول مصدر مطّلع على شركة النفط الوطنية الإيرانية إنّ البنوك التي تعمل عن علم مع إيران يمكن أن تكسب عمولة تصل إلى 15% من قيمة التحويلات.
أين تنتهي الأموال؟
تبقى بعض الأموال في آسيا أو تتدفّق إليها، وهي مصدر العديد من الواردات الإيرانية، بما في ذلك قطع غيار الأسلحة. ويتمّ إخفاء البعض الآخر في منطقة الشرق الأوسط، حيث تدفع أجور مقاتلي حماس والحوثيين والحزب. وفي بعض الأحيان يتمّ تخزين الأموال في أماكن أقلّ وضوحاً، مثل فروع البنوك في بودابست أو آخن، وهي مدينة منتجعات تقع على حدود جبال إيفل في ألمانيا. ولندن هي سادس أكبر قاعدة في العالم من حيث عدد الكيانات المرتبطة بإيران المدرجة على القائمة السوداء للولايات المتحدة.
تتابع شركات الصيرفة الأموال الإيرانية من خلال الاحتفاظ بدفاتر الأستاذ الداخلية: جداول بيانات ضخمة تسجّل المدينين والدائنين عبر مئات صناديق الائتمان. يقوم عملاء الشركات الإيرانية بتسوية المعاملات عن طريق شراء أو بيع الدولارات الافتراضية عبر منصّة عبر الإنترنت، تسمّى نيما NIMA، وعادةً بأسعار صرف مدعومة. على الرغم من بقاء العملة الصعبة في الخارج، إلا أنّها في النهاية ملك البنك المركزي الإيراني، الذي يدير نيما. ويقول مصدر مطّلع على كيفية إدارة البلاد لدفاترها إنّ البنك لديه جدول بيانات خاصّ به لتسجيل الاحتياطيات الافتراضية التي يحتفظ بها في الخارج.
مثل هذا النظام مكلف. فإلى جانب الحسومات والمكافآت للوسطاء والرسوم المالية، تتلقّى إيران عملة أقلّ بنسبة 30% إلى 50% ممّا قد تحصل عليه في سوق مفتوحة، وفقاً للمصدر. ويختفي أمناء الشركات الواجهة أحياناً مع الصندوق. ومع ذلك، فإنّ هذا التعقيد المسرف يجعل الشبكة مرنة أيضاً. وعلى الرغم من أنّ منفّذي القانون الأميركيين كشفوا عن مئات الشركات المرتبطة بإيران، إلا أنّ شركات جديدة تظهر بسرعة. وتُظهِر رسائل البريد الإلكتروني بين الرؤساء في شركة PCC أنّه في عام 2022، عندما تمّ الكشف عن مئات الحسابات الائتمانية، لم يستغرق الأمر سوى بضعة أشهر حتى تتمكّن الشركة من استخراج الأموال واستبدال معظمها. قد يكون لإجبار البنوك على فحص الجبهات الإيرانية بشكل أكثر جدّية ربّما من خلال معاقبة الحالات الفادحة، تأثير أكبر. لكن على الرغم من التحذيرات من أنّها قد تفعل ذلك، فإنّ إدارة بايدن لم تدرج بنكاً واحداً على القائمة السوداء بعد.