جنبلاط لايحاصر والحريري يختار التحولات والتموضع بعيداً من الضغوط
النقاش الذي طال علاقة رئيس الحكومة سعد الحريري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، في مواقع التواصل، فيه تجنٍّ على الحريري، وانتقاص من حضور جنبلاط. فالعلاقة تدهورت، وفق مسار طبيعي لتموضع جديد اتخذه رئيس الحكومة، لكنه لا يعني بأي شكل من الأشكال أن جنبلاط بات ضعيفاً، وعاجزاً على حماية نفسه والتأقلم مع التطورات، وهي مهارة لم يخسرها منذ 40 عاماً.
التأزم، من دون شك، ولّد صدمة كبيرة لدى مناصري الطرفين في مواقع التواصل. تبادل الطرفان الاتهامات بالخيانة للعلاقة الممتدة منذ 14 شباط 2005. ذكّر الاشتراكيون، الحريري، بوقوف جنبلاط الى جانبه منذ ذلك الوقت، فيما رأى مناصرو “المستقبل” أن الهجوم “لا أخلاقي” وأنه لا يمكن أن يكون صادراً من حلفاء. خطاب الانقسام و”التمنين”، ساد مواقع التواصل، ولم يترك مجالاً لاستيعابه، قبل أن يكلف جنبلاط النائب هادي ابو الحسن بالتهدئة والاشراف عليها في أوساط المناصرين.
والحال، إن الصدمة ناتجة عن اعادة تموضع الحريري، واتجاهه في خيار آخر. هي مقاربة عاطفية لا تأخذ في الاعتبار العمل السياسي. اعتاد الجمهور الحليف للمستقبل، منذ 2005، على الحريري مضحياً تجاه حلفائه. لكن الحريري، الذي كان ينقسم على نفسه تجاه الحلفاء وحتى أركان التيار نفسه، تغيّر.
يظهر من حدة ردود الحريري على جنبلاط، أنه لا يتبنى أي مقاربة عاطفية تجاه الآخر، حليفاً كان أم مناصراً. تلك المقاربة التي ابعدته عن السلطة أربع سنوات بعد العام 2005، أنتجت جيشاً من المنافسين السياسيين له داخل البيت “المستقبلي” قبل أن يكون خارجه، شاءت الانتخابات النيابية الاخيرة إبعادهم عنه.
كذلك، أنتجت تلك المقاربة منافسة له في صناعة القرار من قبل حلفاء، بالنظر الى طراوة تجربته السياسية بعد اغتيال والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري. اعتاد الجمهور عليها، وبقي ينظر اليه من زاوية الطيب، أو غير المؤهل للحكم، وهو ما لم يكن واقعاً الا في ذهن بعض الجمهور غير الضليع بالسياسة، لأن الحريري كان يلتقي مع الآخرين سياسياً في مواقف تناسبه، على الارجح لا تنسجم تلك المواقف مع تطلعاته السياسية، فحصل الالتباس.خلال مقابلته مع مارسيل غانم في أولى حلقات برنامج “صار الوقت”، بدا الحريري ضليعاً بكل ما يحيط به سياسياً. حر القرار، ويختار التحولات والتموضع بعيداً من الضغوط. وحين أحجم عن “بقّ البحصة”، ولم يكسر الجرة مع وزير الخارجية جبران باسيل، الذي أشّر اليه غانم بالمسؤولية عن تعطيل تشكيل الحكومة. كان الحريري مهادناً، لكن غير مكسور. يومها، وضع اللبنة لتموضع جديد. لتحول في الخيارات التي يرى ان الحلفاء يجب أن يجاروه بها، وليس هو من يجاريهم.
سعد الحريري تغيّر؟ نعم. لم يعد زعيم “المستقبل” المترف. ولا الزعيم المكسور، أو المسلوبة إرادته، حتى في داخل تيار “المستقبل”. يختبر الحريري القلة المادية، ويتأقلم معها. كما يختبر انكفاء الدعم الخارجي، ويجاريه. يختبر تحليق الأجنحة الكبيرة في تياره بعيداً منه، ويلم الشمل من الموثوقين، أو من غير الراغبين بوراثته حياً.
الحريري تغيّر؟ طبعاً. حتى مع الحلفاء الذين تقاسم معهم همومه، وبكى فراق والده على أكتافهم، ولاذ بهم لشد عضد تياره المشظى بين الاجنحة والطامحين بعد رحيل والده.
كل الإنكسارات، دفعته الى التموضع مرة أخرى الى حيث يجد القدرة على الصمود والبقاء السياسي والمادي، وذلك بعدما دخل نادي المحنكين سياسياً الذين لا يجدون حرجاً في اعلاء المصلحة السياسية أو الشخصية لا فرق.
صودف أن باسيل هو العضد الآن، كي يتسنى له الحكم. فهو واقعي، لكن ذلك لا يعني أنه تخلى عن الحلفاء. فهو يختبر قوته الشخصية، وأفقدته الظروف الدافع للتضحية لأجل آخرين، عندما يتعارض ذلك مع قدرته على الحكم، وعندما تبدلت الظروف في الداخل واستطاع “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” فرض بصمات على دينامية السلطة.
وعوداً على بدء، ثمة مبالغة في تصوير جنبلاط وحيداً، أو معزولاً، أو منكسراً إثر تموضع الحريري الجديد. جنبلاط يختبر التغريد وحيداً الآن، كما غرد في منعطفات سابقة أكثر ضراوة. يتأقلم الرجل مع كل الظروف والمتغيرات. له قدرة استثنائية على تحويل التهديد الى فرص، والحفاظ على زعامته في مواجهة الرياح العاتية، والحفاظ على طائفته. جنبلاط لا ينكسر. فهو القادر على الانحناء عندما يرتفع الموج. ولم يرتفع الموج بعد.
المدن