خفض رواتب موظفي الدولة: إخفاق “عوني” سيطال القطاع الخاص
تستدعي صعوبة الوضع الاقتصادي والمالي، الذي تمر به البلاد، رسم خطط وسياسات تعالج الأزمة وتتجنّب تفاقمها. وبغياب وزارة التخطيط، التي يُفترض أن يشغلها خبراء، تصبح الساحة خالية للاستنتاجات والإبداعات، خصوصاً وأن الكلام في لبنان مجاني ولا ضرائب عليه.
اقتراح التخفيض
في
محاولة لإبتداع الحل، أكد عضو تكتل “لبنان القوي”، النائب ميشال ضاهر، في
مقابلة صحافية يوم السبت 30 آذار، ان الحل لما يعيشه لبنان يحتاج إلى
“اتخاذ قرارات جريئة وإن كانت غير شعبية”. وبُعد النظر، أخَذَ ضاهر باتجاه
اليونان وفنزويلا لاستعارة تجربةٍ والتحذير من أخرى. وعليه، استعار ضاهر
تجربة اليونان، فأوصى باتخاذ قرار “يحظى بغطاء من كل القوى السياسية، يقضي
بتخفيض الرواتب”.
وانطلق ضاهر من فلسفة وجود “320 ألف موظف في القطاع العام، من أصل مليون
و250 ألف موظف في كل القطاعات، أي أن حوالى 25 في المئة من اليد العاملة،
تعمل في القطاع العام. وهذا أمر غير مسبوق في اي دولة بالعالم”. وفي حال
عدم الامتثال للرؤية، سيواجه لبنان النموذج الفنزويلي، ما يعني “ذوبان
الرواتب والانهيار الشامل”. ويؤكد ضاهر أن رؤيته “ستؤثّر شئنا أو أبينا على
الوضع الاقتصادي، كونها ستؤدّي الى تراجع الاستهلاك”.
إخفاقات بالجملة
أخطاء
كثيرة وقع بها ضاهر وفريقه السياسي، في محاولتهم مقاربة الأزمة الاقتصادية
والمالية، وفي محاولتهم إبتداع الحلول والمساهمة في بناء الدولة
ومؤسساتها. واللافت، أن تلك الأخطاء تقع عن سابق إصرار وتصميم، رغم أن بعض
الطروحات والمشاريع مُخالِف للقوانين. وهذا ما ينفي صفة الأخطاء عن بعض
الممارسات، لأن الخطأ ينتج عن عدم معرفة، وليس عن تجاهل متعمد لنصوص وأحكام
وقواعد محددة وواضحة.
وعليه، اعتبر مدير عام الاستثمار في وزارة الطاقة والمياه سابقاً،
والخبير في شؤون المالية العامة، غسان بيضون، في معرض ردّه على ضاهر، في
حديث إلى “المدن”، أن “القرارات الجريئة تكون بالاعتراف بالخطأ والرجوع
عنه، وبوقف مسلسل خطط الكهرباء ومغامراتها الغامضة وبإخراجها إلى العلن،
وبوقف الغش في الإنفاق من سلف الخزينة، وبإنهاء بدعة البواخر بالعودة إلى
الخيارات المستدامة. أما الحل، فيبدأ بوقف الفساد، من خلال العودة إلى
تطبيق القوانين، وبوقف المقامرة بالمال العام”.
ودعا بيضون إلى
“مراجعة القوانين رقم 112 و114. وعليه، أخبرونا كيف يتحقق شرط خفض نسبة 1
في المئة من العجز بالنسبة إلى الناتج المحلي، فيما نعطي في الوقت نفسه
سلفة تُسدَّد عبر الاقتطاع من المستحقات المتوجبة على الإدارات والمؤسسات
العامة؟”. وتساءل بيضون “أليس تسديد الفواتير إنفاقاً على حساب الموازنة؟
وكيف يمكن تحميل الموازنة العامة أعباء تسديد فواتير تعود إلى مؤسسات عامة
مستقلة مالياً؟ أسئلة كثيرة مطروحة حول النتائج المالية لتطبيق هذه
القوانين، ونحن لم نكد نخرج بعد من أزمة حسابات الدولة، واكتشاف ما تم
اكتشافه من مخالفات فادحة، تتعلق بالإنفاق من سلفات الخزينة”.
إنطلاقاً
من ذلك، “المطلوب وقف الهدر و”الدَلَع” في طلب مزيد من سلفات الخزينة.
ووقف العبث بالمال العام، وضبط فوائد الدين العام، والهندسات المالية
المشبوهة، ووقف تجهيز المكاتب الفخمة والاستملاكات والمصالحات والهدر في
الإنفاق على السفر والمواكب والمرافقين.. وغيرها”. داعياً ضاهر وفريقه إلى
الخروج من “أسطورة أن الوزير سيد وزارته وله أن يفعل فيها ما يشاء. لذلك،
املأوا شواغر الوظائف القيادية في الإدارة، وعينوا مجالس الإدارة وحرروا
الأجهزة الرقابية من براثن السياسة، وأوقفوا الغش في صياغة القوانين،
والتعديلات المزاجية على قرارات مجلس الوزراء”. وذكّر بيضون ضاهر “بصياغة
القانون 107 / 2018 الذي أوحى بأن مولدات كهرباء زحلة مستأجرة من الامتياز
لتشريعها وتمييزها عن غيرها من المولدات غير الشرعية”.
وخلص بيضون إلى أن “الرواتب حق مقدس لمن صرف عمره في سبيل الخدمة العامة. والمس به هو الذي يؤدي إلى انهيار وثورة”.
خطأ في التقدير
استعارة
النموذجين اليوناني والفنزويلي، والركون إلى تراجع الإستهلاك كنتيجة
حتمية، دليل واضح على أن ضاهر لم يتعمّق في التحليل الاقتصادي للتجربتين
اليونانية والفنزويلية. وبالتأكيد، لم يدرس كافة المراحل العلمية لآليات
خفض الإستهلاك والنتائج المرافقة لها.
وبعيداً عن الغوص في التفاصيل العلمية، يكفي القول أن تخفيض رواتب القطاع العام يحتاج من الناحية الإدارية إلى قوانين وقواعد. ومن ناحية التأثيرات، فإن تخفيض الرواتب وانخفاض معدّل الإستهلاك، إثره، “يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وإلى انكماش اقتصادي. وهو ما يؤدي إلى مشاكل اقتصادية وإجتماعية”، وفق ما قاله الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة في حديث إلى “المدن”.
وأشار عجاقة إلى ان ارتفاع نسبة العاملين في القطاع العام في لبنان، أمر مرهق للخزينة العامة، ذلك لأن أغلب العاملين في القطاع العام “ليسوا منتجين اقتصادياً. فالقطاع العام في لبنان قطاع غير منتج، وإنما لديه دور مشرّع ومنظّم ومراقب للعملية الإنتاجية. وبذلك فهو لا يحتاج إلى هذا العدد من الموظفين”. ولفت عجاقة النظر إلى أن “ملاك الدولة لا يتخطى 12 ألف موظف، والباقي موظفون غير معروفي الدور والوظيفة. وتبعات توظيفهم يتحملها السياسيون، الذين وظّفوا هذا العدد تحت مسميات مختلفة، مياومون وأجراء وعاملون بالساعة… وغير ذلك”.
في السياق، لا تنحصر تداعيات اقتراح ضاهر بالقطاع العام. إذ سيتأثر القطاع الخاص بها حكماً، فانخفاض الإستهلاك ومعه الناتج المحلي سيؤثر على القطاع الخاص، وعلى المسار العام للاقتصاد. ناهيك عن اتجاه القطاع الخاص إلى خفض رواتب موظفيه تشبّهاً بالقطاع العام، على قاعدة التذرّع بالأزمة الاقتصادية، وبإجراءات القطاع العام. وهو ما سينذر بأزمة اجتماعية كبيرة، قد لا تحتملها القوى السياسية، التي تحاول امتصاص نقمة شارعها منذ ما قبل الانتخابات النيابية التي جرت في أيار 2018.
المدن