
نزع سلاح المخيمات… بين تسهيل السلطة وممانعة المحور

د. ياسر غازي
يخوض “لبنان الجديد” بقيادة الرئيس العماد جوزاف عون غمار تحديين مصيريين يشكلان أبرز شروط قيام الدول واستمرارها، هما إعادة إصلاح الاقتصاد المنهار وهيكلته، واستعادة الأمن وقرار الحرب والسلم، مستفيداً من تقاطع الظروف لمصلحته، أو مما يسمى الـ (Momentum) المحلي الاقليمي والدولي.
وإذا كان المسار الاقتصادي قد شق طريقه على الرغم من ممانعة ائتلاف المصالح مع الفساد المتجذر في الكيان، فإن المسار الأمني – الاستراتيجي يمثل “الجهاد الأكبر” المُلقى على عاتق العهد والحكومة اللبنانيين، لأنه ببساطة يتعلق بأحد أكثر الملفات تعقيداً في تاريخ لبنان الحديث، وهو ملف السلاح..، بدءاً من السلاح الفلسطيني الذي تعددت هوياته ووجهات استخدامه طوال أكثر من نصف قرن من وجوده في لبنان، بعدما ضلّ وجهتَه (النضال) وهويتَه (فلسطين).
لقد أكد رئيس الجمهورية بكل وضوح “أن عام 2025 هو عام حصر السلاح في لبنان”، وكان أولَ الغيث اتفاقٌ مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال زيارته بيروت في 21 أيار الماضي، ما شكل أول خطوة رسمية لتطبيق شعار حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية، ونصّ على منع كل أشكال الأعمال الحربية من الجانب اللبناني ضد إسرائيل، التي كان قد شرّعها اتفاق القاهرة عام 1969 والعودة إلى ما تضمنه اتفاق الهدنة للعام 1949، وجاء في أحد بنود الإعلان أن “السلاح الفلسطيني في لبنان، ينبغي أن يخضع لسيادة الدولة اللبنانية وقوانينها، وفقاً لمقتضيات الأمن الوطني اللبناني”.
إلا أن أول خطوة عملية في هذا المسار ستبدأ في منتصف حزيران الحالي بتسليم السلاح في ثلاثة مخيمات فلسطينية في بيروت، هي مخيمات برج البراجنة، شاتيلا ومار الياس، كما أعلن رئيس الجمهورية قبل أيام. وهذه العملية ستبدأ من مخيمات العاصمة التي تعتبر مراجع فلسطينية أنها عبارة عن أحياء سكنية خالية من المظاهر المسلحة، قد تكمل بسلاسة في مخيمات البقاع والشمال لكنها ستواجه صعوبات وربما أكثر.. في مخيمات الجنوب خصوصاً مخيما عين الحلوة- صيدا والبرج الشمالي- صور، حيث ثقل المنظمات الإسلامية “حماس” و”الجهاد” والتنظيمات المتشددة الأخرى التي يتماهى بعضها مع أفكار “داعش” و”القاعدة”، وحيث مخازن الأسلحة النوعية من صواريخ وغيرها.
بوادر هذه الصعوبات عكستها تصريحات لقريبين من “محور الممانعة” وضعت اتفاق نزع السلاح في خانة تلبية الشروط الأميركية والإسرائيلية والمتعلقة بحماية أمن إسرائيل والدفع باتجاه تجريد “محور المقاومة” من عناصر القوة. ويأتي في السياق نفسه ما أعلنه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع بأن “مسؤولي الممانعة يحرّضون بعض الفصائل على عدم القبول بتسليم سلاحهم، ويضغطون على بعض المسؤولين اللبنانيين وتحذيرهم من مغبة البدء بتسليم السلاح”.
إلا أن لهذا القرار التاريخي اللبناني الفلسطيني قراءة فلسطينية متمهّلة تضعُه في السياق الأوسع، إذ تقول: إن ما يحكم موضوع السلاح الفلسطيني هو معادلة سياسية تقوم على منع حركة “فتح” من أن تكون قوة حاسمة ومسيطرة في عين الحلوة، المخيم الأكثر حساسية، كان ذلك قبل التغييرات الكبرى في لبنان والمحيط وما يزال لغاية اليوم، فمنذ أن خرج عميد المخابرات السورية (رستم غزالي) من لبنان، أهدوه “العوزي الإسرائيلي” وهو أهداهم الملف الفلسطيني، إذاً منذ خروج السوري من لبنان والملف الفلسطيني ليس بيد الدولة اللبنانية وإنما بيد “حزب الله”.
الآن كيف يدار النزاع؟ وفق القراءة المذكورة، عندما ترى خريطة النفوذ في المحيط تدرك سبب ارتباك أجهزة الدولة في معالجة ملف المخيمات الفلسطينية، إذ إلى جانب غرفة العمليات الرسمية للجيش هناك “غرفة سوداء” تعمل وفق أجندة مناقضة، لديها مصالح واختراقات في التنظيمات وحتى داخل حركة “فتح” عبر بعض الشخصيات الأمنية الرفيعة في المخيم. وتبدو المعادلة السياسية واضحة في كيفية إدارة الغرف السود للصراع مع الشرعية الفلسطينية، لمنعها من السيطرة على عين الحلوة ومن الاضطلاع بقضية اللاجئين، فقد كان السوري ومعه الإيراني يستثمران ورقة اللاجئين في المعادلة الاقليمية، من هنا نفهم إعادة استدعاء “حماس” لإقحامها في الصراع الأخير (حرب الإسناد) و”الجبهة الشعبية” (جماعة جورج حبش)، للغاية نفسها.
الموقف الفلسطيني يُختصر اليوم بالتزام الآلية التي تم التوافق عليها مع الجانب اللبناني، ومن لا يمتثل لهذا الاتفاق سوف يستدعى من الجيش. تماماً كما حصل في حادثة إطلاق الصواريخ من الجنوب حين استدعيت “حماس” وسمعت التهديد التالي: “إذا لم تسلموا مطلقي الصواريخ سوف يتم التعامل معكم على أنكم خارجون على القانون، ويتم حظر وجود الحركة السياسي وليس فقط العسكري”. فجاءت الأوامر بأن سلِّموا المشاركين ما عدا شخص واحد، يقال إنه يمثل “عقدة أمنية” وتقف خلفه أجهزة كثيرة وهو موجود في عين الحلوة!
في المقابل، ووفق معلومات من داخل “حماس” وعلى صلة بخالد مشعل وموسى أبو مرزوق، فإن العقدة الآن تتمثل في أن الحركة تعاني انقساماً عمودياً وأفقياً، مع وجود جناحين داخل الحركة، الأول بقيادة مشعل وأبو مرزوق ويدعو الى حل كتائب “القسام” كجسم عسكري، في مقابل جناح بقيادة خليل الحية وأسامة حمدان ومجموعة إيران الذين ما زالوا يعرقلون بصورة كبيرة مسار الحل، لا سيما في ملف سلاح المخيمات، لكن نقطة الضعف عند مشعل أنه لم يحصل لغاية الساعة على ضمانات أميركية لنقل الحركة من الحضن الايراني إلى الحضن الأميركي، أما كوادر الحركة في لبنان فهم من الدرجة الثالثة وليست لديهم صلاحيات تنفيذية لاتخاذ موقف معين في ملف السلاح، وهذه مشكلة لدى “حماس” تضاف إلى المشكلات المركزية.
وعلى الرغم من الإجماع اللفظي على أن جميع الفلسطينيين في لبنان تحت السيادة اللبنانية وخطاب القسم والبيان الوزاري، لكن “حماس” توازياً، تريد حواراً فلسطينياً – لبنانياً وفلسطينياً- فلسطينياً لحل ملف السلاح، والمقصود، وفق القراءة الفلسطينية، تمييع الموقف وعدم الوصول الى اتفاق حول السلاح، بذريعة أن عدم إجراء حوار يعني إدخال المخيمات في حرب أهلية، وذلك من باب التهويل وتضييع الوقت، لأن أعين قادة “حماس” على طهران من جهة وعلى واشنطن من جهة أخرى، فخليل الحية ينتظر مستجدات المفاوضات مع طهران وورود التعليمات منها، فيما ينتظر خالد مشعل الضمانات الأميركية وهو يعمل من خلال رجب طيب إردوغان للحصول على اعتراف أميركي به كمرجع وحيد للحركة، حتى يأتي لهم بـ”حماس” ولو أدى ذلك الى انشقاق الكثيرين.
إذاً التعقيدات أعلاه، ستستنفد فترة الثلاثة أشهر المخصصة لمعالجة ملف السلاح الفلسطيني، لتبيان مصير المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، وتبلور مسار الحل في غزة والضفة من عدمه، والسيناريو الأسوأ هو استمرار الوضع الحالي من استهدافات إسرائيلية للبلد، وبالنظر إلى انقلاب الصورة في سوريا فبعدما كان التهديد الاسرائيلي بالوصول الى ساحة الأموييين في قلب دمشق، اختلف الوضع الآن مع انطلاق المفاوضات السورية الاسرائيلية.
لكن على الرغم من كل شيء هناك تفاؤل لدى الجانب الفسطيني بأن الأمور ذاهبة لمصلحة لبنان وفلسطين وسوريا تقول القراءة أعلاه، فإذا رست الأمور على اتفاق نووي مع إيران سيتسارع مسار الحلول على باقي المسارات، إذ ليس في منطق الاستراتيجيات السياسية ما يجيز أن يتم توقيع اتفاق بين أميركا وإيران حول النووي، فيما لهيب النار في غزة متواصل وهذه في صدارة اهتمامات البيت الأبيض، كذلك لا يمكن الذهاب إلى سلام في سوريا مع بقاء الوضع في لبنان متفجراً.
يضاف إلى ذلك أن حلفاء الحرس الثوري لم يعد لديهم شعار سياسي ليطرحوه بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، كما أن السلطة الفلسطينية توقفت عن التعامل مع كل الأطراف الفلسطينية كما في السابق، فبعدما كانت تعترف بمنظمة التحرير وبحركة “حماس”، انحصر الاعتراف الآن فقط بالمنظمة ويقولون لـ “حماس”: “حلّوا مشلكتكم مع المنظمة وإلا حلوها مع أجهزة الأمن اللبنانية”، وهذا ما وضع “حماس” في خلفية المشهد السياسي.
أما لسان حال الفلسطينيين داخل المخيمات غير المتصل بالسياسة ولا بميزان القوى، فهو واضح للعيان، مفاده أنهم كفروا بالسلاح وحمَلة السلاح وبالحروب وكوارثها، بل أكثر من ذلك فهؤلاء لم تعد أولويتهم “فلسطين ولا العودة” ولا الهجرة ولا شيء سوى أنهم يريدون الحياة بكرامة، ومعلوم أن الوضع مأساوي داخل المخيمات التي تحولت الى “سجون قذرة” كما يعبّرون، وهذا بالتالي بات الهاجس الأول لدى المعنيين سواء في رام الله أم في بيروت.