هل يكون موت الأدب فرصة لولادته؟
ليست سهلة المهمة التي يأخذها الكاتب والناشر يوهان فايربر، على عاتقه
النقدي، في كتابه “بعد الأدب، كتابة المعاصر”. فبعد استناده إلى تلك
المقولة الدقيقة، التي برزت في تسعينات القرن المنصرم، والتي تفيد بأن
الأدب مات، يمضي إلى نقد مردديها وناكريها على حد سواء، قبل أن ينطلق منها
مقارباً إياهاً على طريقته. فكأن كتاب فايربر، نقد للنقد، لا سيما الجامعي
منه، ثم يوسع نقده هذا ليكون فعلياً على مقربة مما يدور حالياً في مسارات
الأدب الفرنسي، وربما العالمي.
يحصي فايربر علامات ومردات موت الأدب، مشدداً على أن نصوصه
العظيمة، التي شكلت مفاصل، أو بالأحرى حوادث، في تاريخه، ما عاد في الإمكان
كتابتها. بل، على العكس، لا نصوص اليوم على شاكلتها. لكن هناك كثرة، قررت
الاكتفاء بالبكاء على أطلال تلك النصوص، وبهذا رجعت إلى المكوث في ماض
مُنقَضٍ، علّ ذلك يتيح لها العيش قبل موت الأدب الذي، وبعدما جاءها خبره،
ترفض إعداد جنازته.
كما أن هناك كثرة أخرى قررت، ومنذ البداية، أن تنكر ذلك الموت، وأن تستمر في الكلام عن الأدب كأنه لا يزال هو هو، وغالباً ما يبدو هذا الكلام دليلاً على تعفن جثة موضوعه وتحللها، بحيث إما يكون الأدب فيه مصنوعاً من تدوير لبعض سمات حداثته، أو يكون مصنوعاً من انعدامه على أساس أنه الأدب بعينه، خصوصاً أنه عندها يظهر كطبيعي، أو “نيو-طبيعي” بحسب فايربر في وصفه لميشال ويلبك.
في الحالة الأولى، ثمة رفض للزمن المعاصر. وفي الحالة الثانية، ثمة تأخر عنه. أما في الثالثة، وهنا يتدخل الكاتب بتوسيع نقده، فثمة محاولات للإمساك به. مع الإشارة الحاسمة إلى أن معاصرة الزمن هذا لا تعني راهنيته، ولا “حاضريته”، إذ أنه يُخلق على إثر مسافة منهما، من الراهن والحاضر معاً. وهنا، بين قوسين، كان رولان بارت قد عرّف المعاصر بما هو ما ليس راهناً. وبين قوسين أيضاً، وفي سياق ليس ببعيد، ليس كل الفن المعاصر معاصراً، بل هو في غالبيته راهن، أو يحقق بغية الراهنية، أي التبدد.
على أن الحالة الثالثة، التي يتحدث عنها فايربر، تقوم بإثبات موت الأدب، من دون أن تجد في هذا الموت عائقاً أمامها، بل تجد ظرف ولادتها. كيف؟ يجيب فايربر بالارتكاز إلى علامة من علامات موت الأدب، وهي أن الأديب، أو الكاتب على عموم خطه، لا يجلس حالياً أمام الورقة البيضاء، لتغدو كتابته عليها بمثابة ملئها. هذه الورقة البيضاء في حاضرنا، وهو حاضر تموت فيه الأشياء بفعل إنتاجها الكثير، كما هو الوضع بالنسبة إلى موت الرواية المتناسلة في العالم العربي، صارت ورقة سوداء. بالتالي، صارت الكتابة عليها تعني التخفف من مملوئها، والمضي الى إعادة تنسيقه، أو إلى محوه، واختراع آخر لمكانه. بهذا، تتحول الصفحة السوداء، وعند تبييضها، الى نعش الأدب، أو قبره، حيث يوارى الثرى، وبالفعل نفسه، تكون مسقط رأسه، حيث يبرز عليها من جديد. فمواجهة الورقة السوداء، هي الممارسة المعاصرة، وهي مطلع أدبها.
في هذا السياق، يطرح فايربر فكرة “معاودة الأدب” (rélittérature). ففي تكرار الأدب، ولادة، وهذا ما تشير اليه كتابات ثلة من الأدباء الفرنسيين، الذين باشروا كتابتهم في تسعينات القرن الماضي، مثل نتالي كانتان، استيفان بوكيه، كاميل دو توليدو، اولوفيه كاديو الخ. وما تتسم به كتابات هؤلاء أنها، وبأدبها، سياسية، وبسياستها، أدبية. وبالتالي، لا تفصل (مثلما تشيع الأكاديميا) بين أدبها وسياستها أو اجتماعها أو محمولها عامةً. كما أن تلك الكتابات مباشرة، “تتوجه إلى”، لا تهمها الخطابة، أو البلاغة، وعندما تتكئ عليها، تكون على حدّها، أو في عقبها. فهذه الكتابات، بحسب فايربر، تريد أن تصرف اللغة من اللغة، وفي حينها، تقلبها إلى سبيل أدب.
روجيه عوطة / المدن