فصول من كتاب الفتنة الطائفية
انفجار الشارع اللبناني كان تعبيراً عن وصول التوازنات الطائفية والمذهبية في الحكم إلى مأزق الإدارة السياسية والاقتصادية، لذلك كان الغضب الشعبي رد فعل على التشكيلة الحاكمة والمتحكمة التي أدارت محاصّتها، وتوزع مغانم الثروة الوطنية بين أقطابها والأتباع. بين فعلٍ رسمي، ورد فعلٍ شعبيّ، ذلك هو الوصف الحقيقي للتطورات التي تلت تاريخ 17 تشرين الأول، أما التفسيرات البائسة التي ترد على ألسنة تشكيلة قادت البلاد إلى حافة الخراب، فلا تعدو كونها “كذبة” جديدة تضاف إلى سلسلة الأكاذيب التي أدمنتها طوائفيات البلد، على مدى العقود التي أعقبت اتفاق الطائف الشهير، الذي بات إسماً ونصّاً، من دون ترجمة على أرض واقع السياسات الداخلية.
الصراع داخل المأزق
تحركت
الثنائية الشيعية ضد الحراك الشعبي لأنها توجست خطر النيل من إحكام قبضتها
على الوجهة العامة للسياسات الرسمية اللبنانية. اتخذ التحرك الثنائي شكل
التنبيه “البلاغي”، ثم أتبع لغة التخوين والارتباط بسياسات خارجية، ثم
انتقل إلى الممارسة العنفية ضد مجموع الحراك الشعبي، من خلال حملات
“مداهمات” منظمة ترتكب أعمالاً تخريبية، ثم ينفي أقطاب الثنائية مسؤوليتهم
عن الأفعال التي يرتكبها محازبوهم بين فترةٍ وأخرى. انتقال الثنائي الشيعي
إلى واجهة الفعل، ترافق مع لحظة القناعة بعدم جدوى استمرار الاختباء خلف
اسم رئيس الجمهورية، وبعد مناسبة انفراط عقد التسوية بعد انسحاب “ممثل
السنّية” السياسية منها، أي بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري الذي لم
يستجب “لعروض” استمراره ورقة “تين” إضافية، إلى جانب ورقة “التين” المتمثلة
في التيار الوطني الحر، الممسك بموقع رئاسة الجمهورية.
الحريرية في المأزق
إسم
الحريرية هو مسمى السنية السياسية في الحكم، هذه التي صارت الطرف الأضعف
ضمن التشكيلة الحاكمة والمتحكمة، بعد جملة التطورات الداخلية والخارجية
التي أعادت إنتاج موقعها ضمن النسق الرسمي اللبناني، على الصورة التي باتت
معروضة على شاشة السياسة اللبنانية.
داخلياً، أو على صعيد ذاتي، فقدت الحريرية زخم تقدمها بعيد اغتيال “صاحبها”، الرئيس رفيق الحريري، واجتازت عتبة سيرها نحو تراجعها المتصاعد بعد مؤتمر الدوحة الذي أعقب اجتياح بيروت من قبل الثنائي الشيعي، “حركة أمل” و”حزب الله”، ثم بلغت مرحلة أعلى من الاستضعاف والضعف بعد التسوية التي حملت ميشال عون إلى موقع رئاسة الجمهورية. تراجع الحريرية عن الطموح إلى بلوغ مرتبة الحالة العابرة للطوائف، تضافرت عليه العوامل الداخلية والخارجية. في الداخل، دفع سلوك النظام “المغانمي”، الحريرية، إلى التمركز ضمن قاعدتها المذهبية، وشارك التخلي الخليجي، وفي طليعته الدعم السعودي، في تقليص هامش الخدمات التي كانت تقدمها الحريرية، وأسهمت سياسات التخلي في “تخليق واصطناع” زعامات محلية سنية منافسة. فبات الحريري الإبن متقدماً بين أقران، وباتت زعامة الأب الراحل ذكرى لا يقوى على استرجاع مقوماتها كل أبناء القاعدة الشعبية الخاصة الذين يحتفظون بحنين حار إليها. تراجع الداخل، المشار إليه، عزَّزه تراجع السنية العربية في الخارج، وانتعاش الشيعية الإيرانية إقليمياً. فكان من شأن التراجع والانتعاش، تضييق المدى على طرف لبناني، وتوسيع الآفاق أمام طرف آخر. وحينما تراجع “الخليج” برمزياته، تقدمت إيران بمدلولاتها، في أكثر من بلد عربي، وفي لبنان ايضاً. في الحصيلة، كان للثنائي الشيعي أن يتقدم، على طريق استثمار اللحظة السياسية المتاحة، داخلياً وعربياً وإقليمياً.
العونية أيضاً
العونية هي الوصف الأنسب للتيار
الوطني الحر، فالنشأة كانت نشأة إسم، والتطور الذي عرفه التيار هو تطور
موقع الإسم أيضاً، من الداخل إلى الخارج، ثم إلى الداخل في رحلة معاكسة في
الاتجاه وفي السياسة.
تبدو العونية في موقع المستعجل لجمع الحصاد الذي أمّنته لها سنوات المصالحة مع السياسة السورية، وسنوات التحالف مع حلفاء سوريا في الداخل، وفي طليعتهم الثنائي الشيعي الذي يملك مقومات الاندفاعة السياسية ومقومات القوة. شعار استعادة الحقوق المسيحية أزاحت الوطنية الواسعة التي أعلنها رئيس “شعب لبنان العظيم”، وحلَّت محلها وطنية ضيقة هي وطنية فئة من اللبنانيين تضررت بعد اتفاق الطائف، فكانت لها فرصة استعادة ما أمكن من مكاسب في ظل العهد الحالي، المرعي بتوازنات القوة والاستضعاف في الوقت ذاته. لقد بلغت رحلة الاستعادة ذروة خطيرة، وفرضت مسالكها أعباء إضافية على سعد الحريري “السني” فعجز عن حملها، وراكمت “جبالاً” من الفساد والتجاوزات والنهب والإثراء غير المشروع، مما ناءت به البنية الداخلية، وصرخت في وجه استمراره وديمومته جموع غاضبة من اللبنانيين. ربما كانت الصرخة، عند العونية، جرس إنذار ودعوة إلى التوقف عن اختزال الطيف المسيحي العام في تيارها، وربما تنبيه حقيقي إلى أن حرب الإلغاء غير ممكنة ضد موقع رئاسة الوزراء، وضد القوى المسيحية الوازنة ضمن صفوف الجمهور المسيحي المشترك الذي تتوزعه أحزاب وشخصيات وزعامات تقليدية أساسية.
الحراك الشعبي صاعق المأزق
عود على بدء، انفجار
لعبة التوازنات كانت عناصره قد تراكمت تباعاً، وما أضافه الحراك الشعبي كان
الصاعق الذي أكمل عناصر انفجار العبوة الغنائمية المؤقتة. على هذه
الخلفية، يمكن فهم الهجوم الذي يتعرض له جمهور المتظاهرين في الشارع،
ويُفهم أيضاً مغزى مبادرة الثنائي الشيعي إلى تشكيل قوة الهجوم “المادية”
بصفته المتضرر الأول، لأنه المستفيد الأول من التشكيلة المتحكمة حالياً.
هذا في حين شكل الرئيس ميشال عون قوة الهجوم “المعنوية”، لأنه المستفيد
الأول في بيئته، والشريك في الاستفادة مع حلفائه على مستوى لبناني عام.
ماذا عن الحراك؟
في
هذا السياق، ليس مفيداً التنصل من تبعات الأخطاء التي ارتكبها القيمون على
شؤون الحراك الشعبي، وليس مفيداً الاختفاء وراء كلام المندسين من رسميين
وحزبيين، بل يجب الاعتراف بأن العشوائية كانت لصيقة به بأكثر من اداء، وبأن
الشعارية كانت مضرَّة في أكثر من مناسبة، مما يجدر معه المسارعة إلى نقد
المسلك، ومراجعة السلوك، وإعادة التدقيق السياسي في كل الخطوات… ومع ذلك،
أي مع هذا الاعتراف، يجب القول أن أخطاء الحراك لم تشكل المبرر الحقيقي
لاستهدافه، بل قدمت الذرائع المباشرة لكل التشكيل الطائفي المذهبي الذي
يريد إسقاطه والتخلص منه. ذلك أن محطة الوضوح التي بلغها الحراك، والضغط
الحقيقي الذي راكمه، زعزع، إلى حين تطوري آخر، أسس تشكيلة النهب، وفرط عقد
تسوية الضرورة بين أطراف جمعها السعي إلى الاستئثار والتفرد بتقرير مصير
الصيغة اللبنانية.
أقطاب النظام في مأزق، وهم مُطالَبون بالإجابة على سؤال: وماذا عن الغد؟
والحراك الشعبي أمام مسؤولية الإجابة على سؤال: إلى أين من هنا إلى الغد؟… وكل غدٍ لناظره قريب
أحمد جابر – المدن