دَورُ السُفَراء الأجانب في لبنان بين القانونِ والواقعِ السياسي
السفير الدكتور جان معكرون*
في السابع من تموز (يوليو) الجاري، صدر بيانان عن سفارَتَي الولايات المتحدة وفرنسا في لبنان جاء فيهما: ” إنّ سفيرة الولايات المتحدة الأميركية وسفيرة فرنسا ستتوجهان إلى المملكة العربية السعودية للقاءِ عددٍ من المسؤولين السعوديين”. وتضمّن هذا الخبر، الذي أكّدته وسائل الإعلام المحلية، أنّ هذه الزيارة أتت عقب الاجتماع الثلاثي بشأن لبنان لوزراء خارجية أميركا، أنطوني بلينكن، وفرنسا، جان-إيف لودريان، والسعودية، فيصل بن فرحان آل سعود، والذي انعقد في 29 حزيران (يونيو) الماضي على هامش مؤتمر قمة مجموعة العشرين في إيطاليا.
كما ذكر بيان سفارة الولايات المتّحدة أنّ السفيرة الأميركية، دوروثي شيّا، ستبحث خطورة الوضع في لبنان وسوف تؤكّد على أهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني فضلاً عن زيادة الدعم للجيش وقوى الأمن الداخلي.
وبالشراكة مع نظيريها السعودي (وليد البخاري) والفرنسية (آن غريو)، سوف تواصل العمل على تطوير الاستراتيجية الديبلوماسية للدول الثلاث التي تُركّز على تشكيل الحكومة وحتمية إجراء الإصلاحات العاجلة والأساسية…
السؤال المطروح من قبل المراقب السياسي والديبلوماسي هو التالي: هل يتوافق تصرّف السفيرتين الأميركية والفرنسية مع معاهدة فيينا للعلاقات الديبلوماسية للعام 1961، لا سيما المادة 9 بند 1 والمادة 41 بند 1 و2؟
نصّت المادة 9 بند 1 على أنه “يجوز للدولة المُعتَمَد لديها، في جميع الأوقات ومن دون بيان أسباب قرارها، أن تُعلِنَ للدولة المُعتَمِدة أنّ رئيس البعثة أو أي موظف ديبلوماسي فيها شخص غير مرغوب فيه أو أنّ أي موظف آخر فيها غير مقبول…”.
كما جاء في المادة 41 بند 1 أنه “يجب على جميع المتمتعين بالامتيازات والحصانات، مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدولة المُعتَمَد لديها وأنظمتها. ويجب عليهم كذلك عدم التدخّل في شؤونها الداخلية”.
في حين فرض البند 2 من هذه المادة على البعثات الديبلوماسية التعامل مع الدولة المُعتَمَد لديها بشأن الأعمال الرسمية من طريق وزارة خارجية هذه الأخيرة أو أي وزارة أخرى يُتفق عليها بين الطرفين.
الواضح من المادة 9 أنّ الدولة المُعتَمَد لديها تتمتّع بحقٍّ استنسابي بأن تُعلن أن أي موظّف ديبلوماسي هو غير مرغوب فيه ومن دون أن تُبرِّرَ موقفها.
كما أوجبت المادة 41 على الموظف الديبلوماسي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة المُعتَمَد لديها.
سنداً لما تقدم، من حقّنا أن نتساءل، من أي منظور يُمكن تقييم زيارة السفيرتين المذكورتين إلى السعودية للبحث مع الجانب السعودي في شؤون لبنانية داخلية؟ وهل هذه الزيارة مألوفة ومُتعارَف عليها أو أنها غير مألوفة وتتناقض مع الأعراف الديبلوماسية ومع اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية؟
لقد أشار الدكتور علي الشامي في كتابه “الديبلوماسية” إلى ما ذكره الفقيه الفرنسي فيليب كاهييه” (Philippe Cahier) بأنه يحق للبعثة الديبلوماسية التدخّل في الشؤون الداخلية في الدولة المُعتَمَد لديها عندما تكون مصالحها القانونية مُهدّدة مثل انتقاد البعثة لقوانين قضائية أقرّتها الدولة المُعتَمَد لديها بسبب إنكارها العدالة وذلك بهدف الدفاع عن حقوق رعاياها.
لكن نرى أنه عندما تتدخّل البعثة وأعضاؤها في السياسة الداخلية أو الخارجية للدولة المُعتَمَد لديها كانتقاد سياسة الحكومة في أيِّ شأنٍ داخلي أو سياسي، فتكون بذلك قد خالفت المادة 41 بند 1 من اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية، وأخلّت باحترام قوانينها وتدخّلت في شؤونها الداخلية.
عطفاً على ما تقدّم، علينا أن نُحلّل مدى مخالفة تصرّف السفيرتين الأميركية والفرنسية للمادة 41 -1 – من اتفاقية فيينا.
من حيث المبدأ، فإنّ تدخّل أي بعثة في الشؤون الداخلية لدولة ما قد يؤدي إلى خلق التوتّر بين الدولتين، وأيضاً إلى احتمال إعلان الموظف الديبلوماسي شخصاً غير مرغوب فيه والأمثلة التاريخية عديدة ونذكر منها:
- في العام 1915، طلبت الولايات المتحدة الأميركية سحب السفير النمساوي-المجري لأنه اقترح على حكومته خططاً للتحريض على الإضراب داخل مصانع الذخيرة.
- في العام 2000، أعلنت الولايات المتحدة أنّ نائب القنصل في قسم المصالح الكوبية في واشنطن غير مرغوب فيه بعد اتهامه بمساعدة بعض الأشخاص على التجسّس.
- في العام 2008، أعلن رئيس بوليفيا أنّ سفيرة الولايات المتحدة شخص غير مرغوب فيه بسبب اتهامه إياها بالتآمر ضده.
- وفي العام 2011، أعلنت روسيا أنّ السكرتير الثالث في سفارة الولايات المتحدة غير مرغوب فيه بعد اتهامه بتجنيد روسيين لصالح المخابرات الأميركية.
بعد استعراض الظروف المحيطة بزيارة السفيرتين الأميركية والفرنسية إلى الرياض، واتضاح ماهية المادتين 9 و41 من اتفاقية فيينا، إضافةً إلى الاطلاع على السوابق الديبلوماسية، لا بدّ لنا من أن نسوق الملاحظات التالية:
- من الواضح لدينا أنّ تصرّف السفيرتين المذكورتين مخالف للمادة 41-1- من اتفاقية فيينا لأنه يشكّل تدخّلاً في الشؤون الداخلية اللبنانية. كما أنه تصرّف غير متعارف عليه ديبلوماسياً وغير مألوف في الديبلوماسية الدولية.
- وإذا سلّمنا جدلاً بأحقيّة هذا الواقع، فإنه يتوجب علينا عملاً بمبدأ الموضوعية أن نُشيرَ إلى سوابق ديبلوماسية حصلت في لبنان حيث قام سفراءٌ لدولٍ أخرى بالتدخّل في شؤون لبنان الداخلية ولم تتّخذ الحكومة اللبنانية أي قرار أو تدبير بشأنهم، أو قل إن شئت، لم تتجرّأ على توجيه ملاحظة إليهم.
- ثمّ أنه هل من الواقعي والمُفيد للبنان في هذه الظروف الصعبة والمصيرية أن تُقدم الحكومة على إعلان سفيرتَي الولايات المتحدة وفرنسا شخصين غير مرغوب فيهما في وقت نشهد تصدّع السيادة اللبنانية، وفي ظلّ انقسامٍ سياسي عمودي وأفقي بين أحزابه السياسية وفي زمن يحتاج فيه لبنان إلى أيِّ دعمٍ دولي وإقليمي لمعالجة أسوأ وأصعب أزمة سياسية ومالية واقتصادية واجتماعية يمرّ فيها؟
- وهل من الجائز والمنطقي أن تعمد الحكومة اللبنانية إلى الاعتراض على مبادرات دولٍ عديدة كدول الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي والولايات المتحدة هدفت إلى مساعدة لبنان على الخروج من أزماته متمنّيةً على حكّامه إجراء الإصلاحات اللازمة. في حين تتقاعس السلطة السياسية وتتباطأ عن اتخاذِ أيّ قرارٍ إصلاحي وتمتنع عن تأليف حكومة قادرة على التواصل الرسمي والراقي مع المؤسسات والمنظّمات الدولية والتنسيق معها لحلِّ مشاكله المالية والاقتصادية. والأنكى من ذلك، أنّ كبار القادة اللبنانيين يطلبون علناً من المجتمع الدولي المساعدة على تشكيل حكومة. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على فشل الحكّام وفشل المؤسسات في لعب الدور الوطني المُتوَجِّب عليهم وهو رعاية ومعالجة شؤون ومشاكل مواطنيهم اليومية. علماً أنّ الدولة، حكّاماً ومؤسسات، هي المتّهم الأول من الداخل والخارج بالفساد والمساهمة في انهيار الدولة واحتضارها.
- عندما تطلب دولة وتلتمس علناً من دول أجنبية المساعدة على تشكيل حكومة، فذلك يعني أنها تُجيز لهذه الدول التدخّل في شؤونها الداخلية.
وفي هذا السياق، تحضرني المقولة الشهيرة للسيدة الأميركية الأولى إليونور روزفلت، زوجة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وكانت ديبلوماسية وناشطة سياسية، حين قالت: ” لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يجعلك تشعر بأنك أدنى قيمة أو دون المستوى بدون رضاك”.
وبالتالي، فإنه يتعذّر على الحكومة اللبنانية أن تتذرّع بأيّ حجّة منطقية وقانونية من أجل منع تدخّل دولٍ أجنبية في شؤون لبنان الداخلية بعد أن طالب سياسيوه وشعبه علناً وناشدوا المجتمع الدولي المساعدة على تشكيل الحكومة.
ولا يُعقَل لدولةٍ ناشدت الدول الصديقة التدخّل من أجل المساعدة على تشكيل حكومة أن تعمد إلى اعتبار سفرائها أشخاصاً غير مرغوب فيهم بسبب تدخّلهم في شؤونها الداخلية.
لذلك، نخلص إلى القول بأنه لا يمكن للبنان وضع حدّ لأيِّ بعثةٍ ديبلوماسية مُعتَمَدة في لبنان تمنّت عليها جهة رسمية لبنانية التدخّل في شؤونه الداخلية لا سيما السياسية وبهدف مساعدته ودعمه على مختلف الصعد بخاصةً الاقتصادية والسياسية.
وهكذا، نجد أنه لا مُبرّرَ قانونياً ولا مسوّغَ منطقياً ولا حجة واقعية تُجيزُ للحكومة اللبنانية اتخاذ أيّ قرار أو تدبير بحقِّ السفيرتين الأميركية والفرنسية أو سفير آخر في حين تُمعِنُ في التقاعس والتباطؤ والتأخير في تشكيل الحكومة، لا بل هي المُتَّهمة الأساسية من المجتمع الدولي بفرض الحصار السياسي والاقتصادي على المواطنين.
على ضوء ما تقدّم، رأيت من المفيد أن أشير في هذا السياق إلى حكمة قانونية لاتينية في غاية الأهمية وهي المعتمدة في اجتهادات المحاكم الفرنسية وهي التالية: “لا أحد يستطيع أن يستغلّ فساده أو إهماله” (Nul ne peut se prévaloir de sa propre turpitude). ويُمكن الارتكاز على هذا المثل لكي نقول أنه لا يمكن لأيِّ أحد أن يتذرّع بإهماله لكي يمنع الغير من تحقيق ما أهمل تحقيقه أو فشل في إنجازه.
ولهذا المثل القانوني سابقة مُعبّرة في العلاقات الدولية. ففي العام 1950 ولدى امتناع ممثل الاتحاد السوفياتي عن حضور جلسات مجلس الأمن والتي اتُّخذت خلالها قرارات مهمة بالتدخل في كوريا. اعتبر فقهاء القانون أنّ التغيّب عن الحضور هو امتناعٌ عن التصويت ولا يمكن اعتباره ممارسة لحق النقض. واستند المندوب الفرنسي آنذاك إلى هذا المثل اللاتيني إذ قال “لا يمكن لأحد التذرّع بإهماله” من أجل استعادة حقّه. أي لا يمكن لمندوب الاتحاد السوفياتي التذرّع بإهماله حضور الجلسة ويستمرّ كأنّ شيئاً لم يكن. وهكذا، نستطيع القول وفي الإطار ذاته أنه لا يمكن للحكومة اللبنانية أن تتذرّع بإهمالها أو فشلها وتستمرّ كأنّ شيئاً لم يحصل، بل عليها أن تترك المجال للغير لكي يعمل.
بئسَ الدولة التي تنكّر حكّامها لأخطائهم والذين صمّوا آذانهم عن سماع صراخ شعبهم والذين كمّوا أفواههم عن قول الحقيقة.
- السفير الدكتور جان معكرون هو باحث وديبلوماسي لبناني متقاعد.