سيادة منطق “المارونوفوبيا”باسيل وحملات صليبية جديدة
لم يعد ثمة حاجة للإنكار بأن كل الجهود للتحول نحو دولة مدنية، فشلت، وتنطوي آمالها على أوهام. فالتطييف بات أكثر قبولاً، والانزواء بات خياراً بما يتخطى كونه أمراً واقعاً، وبات التبجّح بالولاء الطائفي مسلكاً سياسياً وشعبياً تبرر له المخاوف من التلاشي والاضمحلال.
ثمة صفقة معلنة بين أركان الحكم، لا ينكرها ممارسوه: “هذه لك، وتلك لي”. صفقة مقبولة لتأمين استمرارية للحكم بمعزل عن آمال كثيرين من اللبنانيين، يطمحون لدولة مدنية، تكفل حق المواطنة بمعزل عن الانتماءات المذهبية، وهو مسار آخذ بالتبلور، يتصدره إعلامياً وزير الخارجية جبران باسيل، كونه الأعلى صوتاً، والأكثر جرأة في اعلان الوقائع، حتى لو كان ذلك بهدف تعزيز حضوره مسيحياً.
لكن باسيل ليس الوحيد في تثبيت هذه المعادلة. فهي ظهرت أخيراً في بيانات رؤساء الحكومة السابقين، وفي الاعتراض الشيعي على محاولات إبعادهم من شراكتهم في السلطة التنفيذية عبر وزارة المالية… وهي صورة متجددة للصراع، حتى ما قبل باسيل، وتم التعبير عنها بوصفها “محاولات ضرب الميثاقية”. وسيطر هذا الخطاب على فترات أزمات سياسية ما بعد الخروج السوري من لبنان، وكانت تكتمها الوصاية السورية قبلها، ولعل أبرز تلك المحطات كان الأزمة التي تلت استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في خريف 2006.
في الصراع السياسي الآن، يُتهم باسيل بالمسؤولية عن استدراج الآخرين الى موقع اللوذ بالطائفة، وهي اتهامات مجحفة، يتحمل فيها باسيل فقط إعلانه عنها، وإخراج الخطاب المعلن عنه من “تحت الطاولة” الى الشاشات ومنصة “تويتر”، وفضح أسس الشراكة في الحكم التي أرسى اتفاق الطائف أعرافها، كدستور مكمل وليس منصوصاً، وتم التعبير عنها في ما بعد باسم “الديموقراطية التوافقية”.
فالاخيرة تكرس التفاهمات، وتجبر أركان الحكم على الانصياع لها، وهي تحتاج الى جهد مضنٍ في الحوار. جهد لا ينتهي، ويتجدد عند كل استحقاق ومنعطف وتعيين. وعليه، فإن الانقضاض على باسيل من قبل طوائف أخرى، يعود حكماً الى محاولاته ملامسة حصص الآخرين أو تسلله إليها ومحاولات فرض نفسه كلاعب في دواخلها، وهو ما تشير اليه المناكفات الأخيرة مع “الحزب التقدمي الاشتراكي”. أما الانتقادات التي توجه اليه من قبل شركائه المسيحيين، فهي تعود الى محاولاته الاستئثار، كما يقول خصومه، وهو أمر يتجدد عند كل استحقاق.
غير أن الخطورة في الاعلان عن المضمر والمكتوم، هو شيوعه شعبياً، وخروجه من الصالونات السياسية الى الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، بالنظر الى انه ساهم، للمرة الاولى في لبنان ما بعد اتفاق الطائف، بتعزيز الانزواء، وتكريس منطق الجماعة المذهبية، ونقض ما يُرتجى من تعايش ملزم وطوعيّ، تمهيداً للعبور الى دولة مدنية.
ما حصل في بلدة الحدت قبل أيام، يؤشر الى تنامي هذه النزعة الانزوائية، بصرف النظر عن الظروف الدافعة لاتخاذ قرار مشابه، وهو قرار مُدان في الأدبيات الوطنية اللبنانية. وإثر تنامي هذه النزعة، عند المسيحيين على وجه الخصوص، بدأت تٌستعاد أدبيات ما قبل الحرب اللبنانية، لجهة سيادة منطق “المارونوفوبيا”، وهو ما يحمل مؤشرات خطيرة على الاجتماع اللبناني، كون الخصم هنا هو الشريك المفترض، وليس “لاجئاً” أو “نازحاً” يلتقي أركان الحكم عليه، بدرجات متفاوتة، لإبعاد خطره.
من يراقب مواقع التواصل في الايام الأخيرة، يشعر بأن المتاريس التي أزيلت من الشوارع والاحياء في العام 1990، نصبت مرة أخرى في الشاشات، تزيدها خوفاً ما يتسرب من ملصقات، ليس أقلها خطورة صورة باسيل والى جانبه علم لبناني أزيلت منه الارزة وثبت صليب الحملات الصليبية في مكانها، وهو ما يستدعي تحركاً من “التيار الوطني الحر” للتنكر لهذا الملصق أو التبرؤ منه أو توضيحه، منعاً لأي تأويل لاحق يجري تفسيره بوجوه متعددة في تغريدات اللبنانيين.
المدن