عالم جبران باسيل المحلّق في هذيانه السعيد
لا شك في أن السيد الوزير جبران باسيل طليق اللسان ذرِبُهُ، وموهوب بالسليقة في الكلام السائل أو السيّال، كاندفاعه في الأسفار، وابتكاره التجوال الأحديّ المحموم على المناطق اللبنانية، وفي سوى الآحاد من مناسباتها المحلية. شهوته العارمة إلى الحركة تطوّح به كعصفور انطلق من عشّه بعدما نبت الريش في جناحيه، واكتشف متعة الطيران والتغريد، وأطلقه “والده الرمزي” وعرّابه في مسيرته إلى التصدّر والمناصب الوزارية والنيابة. وهو في هذا يختصر المسافات قفزاً، يطويها سريعاً، كأنه يعوّض عسر “الأب – العراب” في الكلام، الذي قد تكون قيّدته المؤسسة العسكرسة في أزمنة خلت. بل يعوّض بطيرانه محلقاً مغرداً ما اعترض سبيل مطلِقِه في الأرجاء من مشقات دامية للمكوث في القصر الرئاسي الجمهوري، ومن مصاعب ومناورات وأحلاف للوصول ثانيةً إلى القصر إياه.
سياسة الثأر
قبل أيام، الجمعة 26
تموز المنصرم، حطّ السيد الوزير رحاله في زحلة، بعدما أدت رغبته الأحَدية
في زيارة كفرمتى إلى سقوط قتيلين وبعض الجرحى، قبل أسابيع قليلة، فتعطلت
اجتماعات مجلس الوزراء ثأراً للقتيلين وامتناع الزيارة. ولئلا يقال إن
السيد الوزير حَمَلته الخشية على العزوف عن جولاته، ولئلا يذهب ابتكاره
الجديد أدراج الرياح، زار طرابلس ومرجعيون خطفاً، وسط استنفار أمني
وإعلامي، لا بد أن يكون قد أطربه وأشفى غليله. هذا بعد ما كان في مقابلة
أجراها معه كاتب هذه السطور بمنزله في الرابية العام 2008، قد قال إن
“الجماعة السياسية التي كانت تمارس علينا الاضطهاد في الأمس، أي تحالف
الحريري – جنبلاط، مستمرة في اضطهادنا اليوم، مالياً وإعلامياً وسياسياً
وأمنياً”. وهو، وصف الدولة آنذاك بأنها “دولة التنصت والاستخبار (…) فهي
تمنع الحماية الأمنية عني وتوظف مخبرين لمراقبتي”. والمقابلة هذه منشورة
بكاملها في كتاب “أقنعة المخلص – شهادات في الشّيعة العونية وإمامها”.
لقد تحرر السيد الوزير من الحصار والمراقبة والمطاردة الأمنية المزعومة لدولة الحريري – جنبلاط، وها هو يعطّل حكومة الأول نسجاً على منوال عرّابي التعطيل للوصول إلى الرئاسة والمناصب الحكومية التي يتربع “عرابّه” في سدة الأولى، فيما يتربع هو مع مقدمي “تياره” في وزارات كثيرة. أما الثاني (جنبلاط) فلا يتوقف وزير الخارجية “الحر” عن الإيحاء برغبته في حصاره بين أهله وفي دياره، ولا يتوقف السيد وليد جنبلاط عن بث رهابه اليومي من “الحصار والإلغاء”. والمثال العتيد في هذا كله هو المثال اللبناني الشائع والراسخ: السياسة كلها ثارات بثارات، وفي أحسن الاحوال أفخاخ ومكائد.
الهذيان النبيذي
يوم السيد باسيل في زحلة كان “يوم للعرق. كيف لا؟ وهو مشروبنا الوطني وأحد رموز لبنان (…)، يحلّ يومياً على طاولاتنا، ويحنُّ إليه المنتشر اللبناني” الذي يعوّل عليه السيد الوزير لاستعادة التوازن الديموغرافي إلى لبنان حلمه الجميل. وقبل سنوات خمس، أي 4 تشرين الأول 2013، كان يوم زحلة مع السيد وزير الطاقة آنذاك “يوماً للنبيذ”. وهو حلَّ في ذلك اليوم محل وزير الزراعة الذي لم يكتم “وزير النبيذ والعرق الزحلي” فرحه بغيابه عن المناسبة، فقال: “لحسن حظي أن الوزير الحاج حسين الحاج حسن أبعده التزامه الديني عن ملف النبيذ، فقربني أنا منه”.
ثم انطلق السيد الوزير في كلامه السيّال مختبراً تفوقه في مجالين أو ثلاثة متقاربة أو متداخلة: مادة الإنشاء العربي في الصفوف المتوسطة، حبّ لبنان حباً إنشائياً بائداً، التسويق الإعلاني للنبيذ ومديح منتجيه “من دون أي مساعدة من الدولة”، على الرغم من رفعهم “اسم لبنان في العالم، بجعلهم كل قنينة نبيذ مفخرة للبنانيين في لبنان وفي أصقاع الارض”. أما الأهم من شمول هذا المنتَج “قطاعات الصناعة والزراعة والاقتصاد والسياحة، فهو بعدُه الحضاري والثقافي”. لذا علينا جميعاً “مسؤولية تعميم هذه الثقافة، ليفهم اللبناني جذور هذا المنتج ومستقبله، وكيف من خلال الحفاظ عليه نكون نحافظ على وجودنا، وعلى وطننا”. وبلغ الهذيان النبيذي بالوزير إلى القول: “إنه منتج كياني يشبهنا جميعاً، لأنه يجب أن نبقى نشبه بعضنا البعض. وهذا النبيذ يشبهنا في عمق وجوده في هذه الأرض. يشبهنا في بعده الروحي، وفي تنوعه في المذاق والرائحة والطعم وفي عمق استطيابه. فكلما تعتّق يجود. هؤلاء هم اللبنانيون، وهؤلاء هم مسيحيو لبنان”. وهنا أصيب السيد الوزير بشطح رؤيوي في شرح الإيمان الديني: “أهم شيء هو عندما نفكر أن النبيذ رمز لدم المسيح. هو أهم ما في دنيانا، وهو سر الفداء”.
لكن سرعان ما اختلط الشطح الديني بالفلسفة السياسية: “لذلك نقول إنه (النبيذ) فتح كياني لأناس مثلنا نحن (الذين) نريد لبنان الكيان وليس الأمة، أولاً الكيان، وبعده تتوفر شروط الأمة (…) لذا يرمز النبيذ إلى كيانيتنا وإلى وطنيتنا وإيماننا المطلق بالدولة”.
مقام العرق
العرق الزحلي الباسيلي “منتج كياني” بدوره. لكن
مقامه دنيوي، وليس سماوياً مثل النبيذ. فهو “مشروب مشرقي بامتياز: العنب
والخبرة من لبنان، واليانسون من سوريا، والسر في اليانسون الفاخر الذي
يميزه عن سواه من المشروبات العالمية”. ومقام العرق الدنيوي اقتصادي: تحسين
انتاجه “يساعدنا في الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.
هكذا ننتج ونستهلك من إنتاجنا، ونصدّر إلى الخارج لإدخال العملة الصعبة،
بدلاً من عدم الإنتاج والاستهلاك من إنتاج غيرنا عبر الاستيراد، وإخراج
العملة الصعبة من لبنان. وهذا ما أوقعنا في عجز تجاري مخيف بلغ 17 مليار
دولار، وأخرج الأموال إلى الخارج، والتي لا تعوّض عنها تحويلات المنتشرين
اللبنانيين، ولا الودائع الآتية إلينا”.
إذاً علينا بالعَرَق وبالعرق ولا شيء سواه لخدمة الدين العام، والخلاص من عجز الموازنة، ومن العتمة وتقنين الطاقة الكهربائية. وبدلاً من أن “ينهش الباطون” أرضنا، علينا “بالدوالي التي استقت منها زحلة لقب وادي العرائش. أرضنا ليست للبيع والمضاربة العقارية، بل تربة ومزارع وانتاج”. وهنا سارع السيد الوزير إلى صك مصطلحات جديدة: “الدبلوماسية الاقتصادية، والإنتاجية، والغذائية، ودبلوماسية الطهي والمطاعم اللبنانية” التي دعا إلى “فتح فروع لها في الخارج، لتستهلك الإنتاج اللبناني، وتساعدنا على النهوض من أزمتنا الاقتصادية، وتثبيت المزارع في أرضنا، وتجنبنا صعوبات الغربة، وتحمي لبنان من مخاطر إفراغه من أبنائه، ليحل الأجنبي مكانهم”.
وختم السيد الوزير هذيانه السعيد قائلاً إن “الأهم” من أن زحلة “سُميّت إهراءات الشرق، ومربى الأسودي، وعاصمة الكثلكة، وزرعت القمح والكرمة، وحصدت خبزاً ونبيذاً وعرقاً ومنتجات غذائية متنوعة” – الأهم من هذا كله أنها “زرعت شباباً وحصدت أسوداً، وأنجبت في تكتلنا وزيرين ونائبين. والأهم أن زحلة لديها صهرٌ يمكنه أن يكون سند ظهرٍ لها”. وهذا ما قاله السيد الوزير قاصداً في جملته الأخيرة رئيس الجمهورية الجالس قبالته، فبادله الرئيس كلامه هذا بابتسامة اكتملت بها سعادته.
هل من شك بعدُ في أننا نعيش في سيرك للحواة، أو في ديزني لاند؟ ولكل من أهل السياسة اللبنانيين سيركه وديزني لانده وجمهوره. فلا يعتبنّ أحدٌ على أحد.
المدن