عهد تفكيك الدولة: تذكّروا باسيل في صربيا
أمر طبيعي أن ينظر فريق سياسي ينتمي لرئيس الجمهورية، إلى البلاد، على أنها ملكية خاصة له. طبيعية هذا المشهد تنطلق من شكل النظام الرئاسي المتجه نحو شبهة الديكتاتورية. لكن المستغرب أن يكون هذا السلوك متّبعاً في نظام جمهوري يرتكز فيه الحكم على رئاسات ثلاث، بينها فصل سلطات ورقابة. والسلوك السلطوي المتّبع في لبنان يعود إلى تناغم أحزاب السلطة واتفاقها ضمنياً على أن محاربة هيمنة أي فريق على الدولة، لا يجب أن تهدد أصل النظام التحاصصي. والسير بهذا المبدأ، يشرّع استنزاف الدولة بأجهزتها واقتصادها ومواطنيها. وبالتأكيد، الاعتراض الشعبي ممنوع. ففي تلك الحالة، الاعتراض يكون على أحزاب السلطة. وهذا من المحرّمات.
النموذج الصربي
لا
جدال حول دخول البلاد مرحلة الاختناق الاقتصادي والمالي، وأي محاولة
لتلميع الواقع، هي جهل أو تواطؤ. فأي ليرة هي بخير في ظل تخبط سعر صرفها
واعتراف المصرف المركزي بوجود سعرين للصرف؟ وأي اقتصاد هو بخير في ظل معدل
نمو صفر وإعلان البنك الدولي “دخول البلد في مرحلة انكماش ستستمر لغاية
العام 2021″؟ ووسط المؤشرات السلبية المتزايدة، تصر السلطة على إعداد
موازنات فارغة المضمون إصلاحياً، وممتلئة الخيارات لجهة تفريغ الدولة وضرب
القطاع العام. والتذرّع بتضخّم القطاع العام هو بطاقة عبور نحو تدميره
لصالح الهيئات الاقتصادية وتحالفها مع بعض السياسيين.
هذه الخلاصة التي نعيشها اليوم، وتعبّر عنها موازنتا العامين 2019
و2020، تعيدنا بالذاكرة إلى شهر تشرين الثاني من العام 2018، وتحديداً إلى زيارة وزير الخارجية جبران باسيل الى صربيا، يرافقه وفد يمثل الهيئات الاقتصادية، أي منظّري تفكيك القطاع العام واطلاق العنان للمتموّلين.
من
صربيا حسم باسيل ومرافقيه موضوع ضرورة “استنساخ التجربة الصربية بخفض
الرواتب في القطاع العام، وإيقاف “الترف” الذي تنعّمت الدولة (اللبنانية)
به على موظفيها”. يومها لم يعترض أحد من زملاء باسيل في نادي السلطتين
التشريعية والتنفيذية، مع أن الجميع يستفيد من القطاع العام عبر التوظيفات
السياسية والانتخابية. من هنا، يصح التفكير أن الجميع متواطىء لتفكيك
الدولة لصالح القسم الجشع من القطاع الخاص، والذي يمثّله قلّة من المتمولين
والمتنفذين المتحالفين مع الطبقة السياسية، وبعضهم أصبح في عدادها مباشرة.
المتقاعدون والأمن الإجتماعي
إعادة
النظر بواقع القطاع العام عن طريق اقتراح إعادة هيكلته، هي خطوات إصلاحية
مطلوبة ضمن موازنة 2020، وحكماً الخطورة لا تقبع في إعادة الهيكلة، بل في
نية ضرب القطاع العام وليس إعادة هيكلته. فالهيكلة لا تعني تصفية المعاشات
التقاعدية للموظفين، وهو ما يواجهه موظفوا القطاع العام والعسكريين.
والتصفية جزء من أحلام الهيئات الاقتصادية التي لا تعترف بالدولة وقطاعاتها
ولا بسياسة الحماية الاجتماعية.
المس بالمعاشات التقاعدية للمتقاعدين الحاليين واللاحقين، من دون إيجاد سياسات اجتماعية واقتصادية موازية، يعني أن الدولة رسمياً تتخلى عن دورها وموظفيها، أي عن شريحة كبيرة من مواطنيها. ويزداد الضغط مع اشتداد الأزمات كأزمة تصريف الدولار والتصنيفات السلبية لمؤسسات التصنيف الائتماني التي تُبعد المستثمرين، وبالتالي ترفع من سلبية معدلات النمو. وعلى هذا الأساس، يصبح من البديهي سؤال باسيل ومن معه، عن خطتهم لمواجهة تداعيات انكشاف القطاع العام أمام هذه الأزمات المتجذرة.
الإجابة غير موجودة لأنها ليست من ضمن أولوياتهم، ما يحيل التساؤل إلى باقي أطراف السلطة التي تتحدث عن التنمية والبناء والتشبّث بالأرض.. وما إلى ذلك من شعارات رنانة لا تطعم كسرة خبز. لكن أيضاً، ليس لدى تلك الأطراف خطة عمل، بل انها وافقت على خطة باسيل لقاء إعادة هيكلة تقسيم المشاريع والصفقات، خاصة في ملف الكهرباء وبواخر الطاقة، وهو الملف الأدسم لدى باسيل. واللافت أن التخلي عن القطاع العام، يعني التخلي عن قناة رئيسية للتجييش الانتخابي. وهو ما سيدفع قوى السلطة للبحث عن قناة أخرى للانتفاع منها انتخابياً.
مؤشرات سلبية كثيرة تتسارع وسط بطء تنفيذ ما تراه السلطة “إصلاحاً”. فهل التباطؤ مقصود؟ الإجابة عن هذا السؤال موجودة لدى المجتمع الدولي ومؤسساته، وتلك الجهات ترفع الصوت لحث الحكومة اللبنانية على إجراء إصلاحات حقيقية، على عكس ما ورد في موازنتي 2019 و2020. الأمر الذي يؤكد أن تفكيك الدولة مستمر، وأن أموال مؤتمر سيدر تتبخّر شيئاً فشيئاً. فهل سيجد أنصار “الفكر” الباسيلي، في المستقبل القريب، ما يديرونه داخل بقايا النظام؟
المدن