كيف تسعى روسيا الأرثوذكسية لبسط نفوذها على لبنان
يناقش الخبراء الأميركيون منذ سنوات محاولات روسيا إدخال
لبنان دائرة نفوذها، بوضعه تحت مظلة موسكو للدفاع الجوي، وعبر بيعها
الأسلحة إلى بيروت. وبينما يجادل بعض المحللين بأنه يجب على واشنطن ألا
تحاول التنافس مع الكرملين في هذا البلد الصغير، يرى آخرون أن أي تنازل في
لبنان هو أمرٌ غير مقبول. ومن هذا المنطلق، نشر الباحث الروسي غريغوري
ميلاميدوف، بحثاً في “منتدى الشرق الأوسط (MEF)”، وهو مؤسسة بحثية أميركية،
يشرح فيه الأسباب التي تدفع موسكو لتوسيع نفوذها في لبنان، والخطوات التي
تتخذها لتحقيق هذه الغاية.
العلاقة مع الأرثوذكس
يُعتبر
لبنان، حسب ميلاميدوف، الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي يمكن لموسكو
الاعتماد عليها لكونها تضم مجتمعاً مسيحياً كبيراً. وتاريخياً، كان هناك
تحالف طبيعي مع الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لبطريركية أنطاكية.
منذ عهد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، تم تكليف الدبلوماسيين السوفيات في لبنان وسوريا بإبقاء بطريرك أنطاكية في دائرة نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وفي عهد بوتين، ازدادت الاتصالات مع المسيحيين الأرثوذكس بشكل كبير، وتوسعت موسكو أيضاً إلى التحالف مع الموارنة، أكبر طائفة مسيحية في لبنان.
أحيا بوتين شبكة من المنظمات الدينية والعلمانية، كانت قد
لفظت أنفاسها الأخيرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، للضغط من أجل مصالح
موسكو في لبنان. ومن هذه المنظمات نذكر الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية
الفلسطينية، التي أنشأت ما يقرب من مئة مدرسة أرثوذكسية في المنطقة منذ
تأسيسها في عام 1872. والتي لا تزال جمعية العائلات الأرثوذكسية في بيروت
تحافظ على روابط وثيقة معها.
الأهداف والوسائل
يؤكد
ميلاميدوف أن لدى روسيا هدفان رئيسيان في الشرق الأوسط يشملان لبنان: جذب
أكبر عدد ممكن من الدول من مجال النفوذ الأميركي إلى جانبها، وتحقيق موقع
متميز، في سوق الأسلحة الإقليمي.
يقول الباحث في مركز تحليل صراعات الشرق الأوسط في موسكو، ألكسندر شوميلين، بأن بوتين لديه مقاربة ذات شقين. فكما فعل الكرملين خلال الحقبة السوفياتية، يسعى بوتين في الشق الأول إلى ربط الدول بموسكو من خلال تقديم المساعدة العسكرية والدعم الاقتصادي. وفق مقاربة أن الاتجاه الصعودي سيجعل الحليف الصغير معتمداً أكثر على موسكو. كما يسعى بوتين، في الشق الثاني، إلى تعزيز مصالح الشركات الروسية الكبرى وزيادة أرباحها عبر الحلفاء.
استخدم بوتين كتاب اللعب السوفياتي في سوريا وأنقذ نظام
الأسد. ووقع أباطرة أعمال مرتبطون به عقوداً لإعادة الإعمار مقابل النفط
والغاز الطبيعي والفوسفات وحقوق الموارد الطبيعية الأخرى. بعد ذلك، تغيرت
سياسة روسيا في لبنان. وعلى الرغم من استنادها المبدئي إلى مبدأ “الاقتصاد
أولاً، ثم السياسة”، سارعت موسكو لاحقاً إلى ربط لبنان بروسيا من خلال
التركيز على علاقتها مع حزب الله ومحاولتها بيع الأسلحة للحكومة. هذه الخطة
تعني، حسب ميلاميدوف، التضحية ببعض الفوائد الاقتصادية التي ربما كانت
لتجنيها لو تحركت ببطء أكثر.
التعاون العسكري
تمت إعادة
هيكلة القوات المسلحة اللبنانية بين عاميّ 2005-2006، بعد اغتيال رئيس
الوزراء السابق رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية. جاءت معظم الأسلحة
إلى لبنان من الولايات المتحدة، فيما انحسرت مساهمة موسكو بالجسور المتنقلة
الثقيلة والشاحنات والرافعات والجرافات والمركبات الأخرى التي بلغت قيمتها
حوالى 30 مليون دولار.
كانت هناك مشكلتان رئيسيتان فيما يتعلق بالمساعدة العسكرية الأميركية للبنان حينذاك: إحجام واشنطن عن توفير أسلحة ثقيلة، والإجراءات البيروقراطية الداخلية التي أبطأت تنفيذ الاتفاقيات. هذا، وقامت واشنطن أيضاً بفرض ثلاثة قيود من أجل إدارة ميزان القوى، وهي:
– توفير قوة نيران كافية لمواجهة حزب الله والمنظمات الإرهابية السنية.
– عدم نقل أسلحة يمكن أن يستولي عليها حزب الله.
– تجنب أي تصعيد على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية.
تسببت القيود الأميركية، كما يشرح الباحث الروسي، باستياء في بيروت، وفي كانون أول 2008، قامت روسيا بأول محاولة لاستغلال هذا الاستياء من خلال عرض بيع دبابات من طراز T-54 / T-55 مقابل حوالى 500 مليون دولار خلال زيارة وزير الدفاع إلياس المر إلى موسكو. ونظراً لأن الصفقة لم تصل إلى خواتيمها السعيدة، عرض الكرملين عشرة مقاتلات من طراز MIG-29 مجاناً، ومع ذلك رفض اللبنانيون العرض وادعى العديد من الخبراء في روسيا والدول العربية أن الدبلوماسيين الأميركيين والإسرائيليين ضغطوا لانهاء الصفقة.
قامت موسكو بمحاولة أخرى في أوائل عام 2010 وعرضت ست مروحيات من طراز Mi-24، وثلاثين دبابة مقاتلة ثقيلة من طراز T-72، وثلاثين نظام مدفعي من عيار 130 ملم، وكمية كبيرة من الذخيرة. وفي 25 شباط 2010 ، دخلت موسكو وبيروت في اتفاقية رسمية حول التعاون العسكري – التقني، لكن لم يتحقق أي شيء منها.
أوصت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخفض المساعدات العسكرية والأمنية بنسبة 80 في المئة إلى لبنان بين عاميّ 2016 إلى 2018. وردت موسكو على ذلك من خلال تقديم قرض بقيمة مليار دولار لبيروت لشراء الأسلحة، وحتى أنها قدمت بعض المساعدات المجانية. امتد مشروع الاتفاق إلى ما هو أبعد من النطاق العادي لاتفاقات الأسلحة، وشمل الوصول إلى المجال الجوي اللبناني واستخدامه لمرور الطائرات الروسية، والوصول إلى الموانئ اللبنانية واستخدامها، وخصوصاً ميناء بيروت، لدخول وإصلاح السفن الحربية الروسية.
يظل المصير النهائي لهذا الاقتراح، وفق ميلاميدوف، غير واضح.
فقد رفضه رئيس الوزراء سعد الحريري في كانون أول 2018، قائلاً أن قبوله
سيقتصر على التبرعات الروسية لقوات الأمن الداخلي في لبنان. وبعدما التقى
الرئيس اللبناني ميشال عون بوتين في موسكو في آذار 2019 وناقشا نقل
الأسلحة، اتهم خبراء روس واشنطن بالضغط على القيادة اللبنانية لعرقلة
الاتفاقية.
روسيا وحزب الله والمخدرات
زار نواب حزب الله
موسكو لأول مرة في عام 2011 للتحقق من عمق دعم بوتين للأسد. منذ ذلك الحين،
أصرت موسكو مراراً وتكراراً على انسحاب مقاتلي الحزب إلى لبنان، لعدة
أسباب، أهمها:
أولاً، لا تتفق روسيا وإيران حول مستقبل جيش الأسد. إذ تريد طهران الحفاظ على كتلة عسكرية شيعية في سوريا بقيادة الحزب وتكون تابعة للحرس الثوري الإيراني. بينما تفضل موسكو استعادة الجيش السوري النظامي وعدم ترك مكان للحزب.
ثانياً، رفضت بعض الميليشيات السنية عقد اتفاقات مع نظام الأسد، على الرغم من الجهود الروسية ، لأن المدنيين المحليين يخشون حزب الله.
ثالثًا، طالبت تركيا وإسرائيل بانسحاب الحزب. وهنا يقول ميلاميدوف بأنه لا يمكن لموسكو تجاهل هذه المطالب، وينقل عن بعض التقارير، إشارتها إلى محاولة الجيش الروسي إيقاف تهريب المخدرات على طول الحدود اللبنانية- السورية، الذي يصفه بمصدر الدخل الحاسم لحزب الله.
يصف ميلاميدوف، موقف حزب الله الحالي تجاه روسيا بالغامض. فمن
ناحية، يشعر بالغضب بسبب الإخلاء المتوخى من سوريا. وهذا ما عبر عنه
الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في حزيران 2018 بقوله “بعض الدول
تتطلع إلى إنجاز جديد يتمحور حول تعاون روسيا معهم لإخراج إيران وحزب الله
من سوريا”. ومن ناحية أخرى، تكبد الحزب خسائر فادحة لدرجة أنه لم يكن لديه
خيار سوى تقليل وجوده. وعلى الرغم من تحقيقه الانتصار، فهذا تحقق بالتزامن
مع تضاؤل شعبيته داخل لبنان وبين العرب الآخرين.
خيبة روسية
طوال
عام 2018، ألقى العديد من الخبراء الروس باللوم على حياد بيروت وعلى الضغط
الأميركي والمشاكل الداخلية للحكومة اللبنانية بعرقلة الصفقات مع روسيا.
وكان بوتين يتوقع أن الحكومة الجديدة التي تشكلت في كانون ثاني 2019، والتي
كان يقودها الحزب بأغلبية كبيرة، ستتبع سياسة أكثر تأييداً لروسيا.
لكن النجاح السياسي للحزب أزعج الأطراف السياسية الأخرى في
لبنان، ما قلص من قدرته على المناورة إلى حد كبير. لذلك يقول ميلاميدوف أن
على الحزب الاعتراف بأنه لولا التيار الوطني الحر، لما تمكن من تعزيز قوته
في وجه إسرائيل أو الإرهاب أو محاولات العزلة.
خيارات بوتين
ليثبت
بوتين بأنه قائد قوي وحازم، لا يمكن أن يتخلى عن هدفه المتمثل في جذب
لبنان إلى دائرة نفوذه بعد بذل الكثير من الجهد. وبالتالي، سوف يضغط
للأمام، ولديه عدة خيارات يذكرها ميلاميدوف كالتالي:
– إعادة ربط لبنان بسوريا من خلال رعاية تحالف قوي موالي لسوريا في بيروت. إذ ترى موسكو أنه من المرجح بعد تشكيل الحكومة الجديدة، أن يعيد لبنان تنظيم موقعه السياسي، وقد تحاول الاستفادة من هذا التعديل الاستراتيجي.
– لعب دور الوسيط الرئيسي للعلاقات اللبنانية السورية مع ضمان السيادة اللبنانية. فمن خلال الترويج بنشاط لإعادة اللاجئين السوريين من لبنان، تعمل روسيا على تحسين علاقاتها مع الجيش اللبناني، ما قد يعطيها فرصة مراقبة الحدود اللبنانية- السورية.
– إذا تمكنت شركات النفط والغاز الطبيعي الروسية من الحصول على حقوق استخراج إضافية في لبنان، فقد تستطيع موسكو تبرير استخدام المقاولين العسكريين الخاصين لتوفير الحماية لاستثماراتها. بدأت هذه الممارسة في أوكرانيا عام 2014، وامتدت إلى أجزاء أخرى من العالم. وعلى سبيل المثال، في أوائل عام 2018، قُتل أكثر من مئة مقاتل من مجموعة “فاغنر” الروسية شبه العسكرية في عمليات قتالية بالقرب من مدينة دير الزور السورية. كما ذُكر أن المجموعة كانت نشطة في ليبيا والسودان وعدد من دول وسط أفريقيا، حيث يقوم أفرادها بمهام أمنية لشركة “غازبروم”، وشركات النفط الروسية الكبرى، والشركات العاملة في استكشاف الذهب والماس.
ويخلص ميلاميدوف للقول، بأن أفضل رهان في موسكو هو العرض على لبنان الحماية تحت مظلة الدفاع الجوي الروسية، من دون ربطها بالمساعدات العسكرية. ستستند هذه الاستراتيجية، برأيه، إلى التطورات في الصراع الإيراني-الإسرائيلي. فإذا كثفت إسرائيل هجماتها على الحزب وإيران بالقرب من حدودها الشمالية، فإن اللوبي العسكري الروسي سيصبح معادياً لإسرائيل بشكل متزايد. وحتى إذا كان بوتين لا يرغب بأن تتفاقم العلاقات مع إسرائيل، فإن رغبته أو حاجته للظهور بقوة ستضغط عليه في المضي قدماً بمعارضته الخطوات الإسرائيلية العدوانية.
المدن