هذه هي قصة المصارف من مليارات الأرباح إلى الانهيار
لم يصح المواطنون اللبنانيون، لاسيما منهم المتعاملين مع المصارف، حتى اللحظة، من هول الصدمة التي أحدثها اهتزاز عرش القطاع المصرفي. وهو ما يصفه العديد من خبراء الاقتصاد بالانهيار أو الإفلاس المصرفي… والسؤال الحاضر الدائم في اللقاءات على اختلاف أشكالها والأكثر تكراراً بين المواطنين هو: ما هي الأسباب الحقيقية التي أوصلت القطاع المصرفي إلى ما هو عليه اليوم؟
يتفق غالبية الخبراء على أن
أزمة القطاع المصرفي لا تنفصل عن النموذج الاقتصادي الريعي، الذي أسس ومهّد
للانهيار الواقع، فيما يذهب بعضهم إلى اعتبار سياسات مصرف لبنان المركزي
سبباً رئيساً لأزمة شح الدولار. ولا يغيب عن الاقتصاديين انتقاد ربط
الاقتصاد بكافة تفاصيله وأركانه بالدولار، وإدخال العملة الأميركية في
التعاملات اليومية.
منظومة واحدة
يصعب توصيف أزمة القطاع
المصرفي في لبنان كأزمةٍ منعزلة عن سوء النموذج الاقتصادي السياسي. فالطبقة
السياسية الحاكمة والمصارف وراعيها المصرف المركزي، وفق الباحثة
الاقتصادية ديمة كريّم، يشكّلون منظومة واحدة، هي المستفيدة الأكبر من بنية
الاقتصاد اللبناني، خصوصاً بعد نهاية الحرب الأهلية.
وبرهنت دراسة نشر نتائجها الخبير الاقتصادي جاد شعبان عام 2015، ومفادها أن نسبة 40 في المئة من أصول المصارف مملوكة من الطبقة السياسية الحاكمة. وحسب الدراسة، فإن ثماني عائلات سياسية في لبنان تسيطر على نسبة 30 في المئة من أصول المصارف، بأسهم تقدّر قيمتها بسبعة مليارات دولار.
هذا الواقع لا يظهّر فحسب تناغم
المصالح بين الطبقة المصرفية والطبقة السياسية، وإنما يأتي، وفق كريّم،
ليؤكد أيضاً أننا نتعامل مع منظومة واحدة ذات مصالح مشتركة.
الاقتصاد الهش
تعود
جذور الأزمة إلى ما بعد الحرب حين “بنت السياسات الاقتصادية نموذجاً
اقتصادياً هشّاً، معرّضاً للأزمات. ويمكن الجزم بأن انهياره أو تفاقم
أزماته مسألة وقت. فمن خلال تثبيت سعر صرف الليرة، يعتمد هذا النموذج على
استقطاب الدولارات من الخارج ومن القطاعات غير المنتجة، كالسياحة والعقار
وتحويلات المغتربين المالية، التي تأتي غالباً من الخليج. هذه القطاعات
تعتبر غير منتجة لأنها ذات قيمة مضافة ضئيلة، أي أنها لا تخلق فرص عمل،
ومعرّضة للتأثر بالصدمات الخارجية والتقلبات السياسية”، تقول كريّم.
المصارف تقع في صلب هذا
النموذج، “فمع بدء مرحلة إعادة الإعمار في التسعينيات، حقّقت المصارف
أرباحاً هائلة من الاستثمار في سندات الخزينة (أي دين الدولة) ذات الفوائد
العالية، وكانت معدّلات الفوائد الأداة المتبعة للحفاظ على تثبيت سعر
الصرف، كلّفت الدولة مبالغ ضخمة، ساهمت بدورها في تفاقم الدين العام وخدمته
على مرّ العقود، وحقّق الاستثمار بسندات الخزينة وتمويل دين الدولة بفوائد
عالية أرباحاً هائلة، بلغت قيمتها 22 مليار دولار بين عامي 1993 و2018”.
نموذج “كسول“
بقيت
الفائدة على الحسابات في المصارف أدنى من تلك التي تحصّلها المصارف من
شراء سندات الخزينة، وهو ما يعدم الحوافز لديها لإجراء استثمارات وتسليفات
أخرى، بحسب دراسة لأستاذة الاقتصاد نسرين سلطي، طالما أرباحها مضمونة
ومؤمنة من تمويل الدين العام، بكسل تام.
من هنا ترى كريّم أن أزمة الدين وكلفته بدأت تتفاقم تدريجياً منذ التسعينيات، خصوصاً في ظل إدارة مالية فاسدة، وليس تفصيلاً أن عام 1997، أي منذ أكثر من عشرين عاماً، كانت خدمة الدين تستحوذ على نسبة 40 في المئة من موازنات الدولة العامة، وفي أوائل العام 2000، ارتفع الدين العام ليشكّل نسبة 180 في المئة من الناتج المحلي.
في الواقع، إن استدامة الدين العام والخوف من انهيار شامل أو إفلاس، هما من المسائل المزمنة، التي تتجدّد مع كل أزمة مالية أو اقتصادية أو صدمات خارجية يمر فيها لبنان بعد الحرب، ولطالما اعتمد هذا النموذج الاقتصادي السياسي على الجهات الخارجية لإنقاذه، عبر مدّه بودائع ودعم عند كل مأزق. وفي هذا السياق، يمكننا فهم مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3 كمؤتمرات إنعاش. لذلك، لا يبدو غريباً أن تكون المصارف والدولة رهائن بعضيهما في كل أزمة تفاقِم الدين العام، فالنظام القائم يظلّل الفوارق بين القوى الاقتصادية والسياسية.
المدن