حوّل الطين إلى منحوتات وإبداع… عارف أبو لطيف يخلّد حكايا الوجوه ويرحل
كتب الإعلامي عارف مغامس في جريدة الأنباء الإلكترونية
قبالة حرمون، وفي أحضان جبل الشيخ، حيث للطين طعم الفن والإبداع، وللتراب هويّة التحوّل وقصة الخلق، لم يكن لذاك الطفل الموهوب ليدرك أن اللهو بتراب أرض عيحا وطينها الاستثنائي بما يملكه من مكونات، سيجعل منه استثناء ابداعياً، ليكون من الفنانين القلائل الذين تحوّل الطين في قبضاتهم وبين أصابعهم إلى منحوتات تنطق بالحياة وتحرث الأعماق، لتغرس الروح في ذرّات التراب المبلّل بماء نسغ الحياة وصمتها الذي استحال قصائد تضيء بوهج أشكالها ذاكرة الأمكنة وذكريات الزمن.
عارف أبو لطيف، الفنان والنحات والرسام، هو ذاك الطفل الذي مرّر الطين بين أصابعه فخلّده صوراً ناطقة واشكالا جاذبة، ووجوها تتكلّم في صمت، وتصمت حين يصير الكلام عصيّا على التعبير.
في لعبة الطين مغامرة نحو أفق إشكالي، لم يقاربه عارف أبو لطيف بوصفه مادة، بل مرّره في مصهر الخلق والإبداع والابتكار ليجعل منه روحا تشاكس رائحة الحقول وزهر البساتين وأغنيات الفلاحين والحصادين، وهمسات القلوب على عين ماء الضيعة ونايات قصب الحكايات. فراح يتفنّن في تخليص التراب من ماديته وجبله بماء روحه الثائرة على الجماد والتقليد وعلى ما استنزفه الزمن من اشكال اعتاد عليها محبو الفن، فقرأ بعين رائية وجوه الكبار فنحتها بهدوء العارف ووثوق العالم أن صنيعه المحترق بجمر المسافة بين اللين والصلابة هو الأبديّة التي ستخلّد أعماله بعد ان نفخ في طينها أسرار ما خبأته نفسه الأمّارة بالابداع والتحليق في مدارات الطين وألوان لوحات يتعالى فيها البوح على الشكل.
لم تتمكن غربته في البرازيل، حين التحق بمعهد الفنون الجميلة في جامعة غوايانا، من أن تنسيه ترابه البكر، حيث بقي الطين شاخصاً في مخيّلته، حاضراً في ذاكرته الاستباقية آنذاك، وكأنه عبر شريط ذاكرته اليقظة كان يهيء المكان ليحتوي ما ارتسم في خياله، بانتظار أن يعود ليفرشه منحوتات ولوحات من طين وألوان وحياة ووجوه.
وإذا كان لكل وجه حكاية عند الفنان أبو لطيف، فلوجهه الذي غاب ألف حكاية على وجوه الناس، ممن ودعه فناناً، وانساناً مثقفاً وعارفاً من أهل النظر والأخلاق والتواضع والعصامية.
وإذا كان لكل فنان بصمة تميزه وتمنحه خصوصيتها وفرادتها، فلعارف أبو لطيف “نحات الزمن الجميل” بصمة لا تشبهها أية بصمة، وهو الذي غاص في الطين حتى ينابيع الاحتراق، فجعل في كل منحوتة اكثر من سؤال وإشكالية: فهل أشعل الطين بنار الابداع؟ أم أطفأ بالماء المنسرب من قبضته وهج جمر الحنين إلى تلك الوجوه التي قدّمها منتمية إلى رؤيته وفنه وخياله الابتكاري المحلّق في مدارات الوجوه التي شغلته إلى حد الاشتعال؟
يغيب الرجل، ويغيّب الموت عارف أبو لطيف، ولا تغيب بطولة الفن والابداع، ولا يغيّب الزمن من نحت وجوه الكبار بريشة القلب وعذوبة الروح وخيال المسكون بتعب المتأمل لغة الطين واللون والماء والضوء.
تحتلك منحوتات عارف أبو لطيف وكذلك لوحاته النابضة بالجدة والابداع، فهو شاعر بلغة الأرض، وعارف بأسرار الطين، وهو الذي استلهم التراث والتاريخ والحضارة والثقافة اللبنانية والعالمية، يتأمل وينحت ما نثرته يداه من حبات تراب على رصيف الأزمنة ووجوه عارفة، فجسد شخصيات بارزة تاريخية وتراثية ومفكرين ومبدعين وعالميين، أذكر منها: جبران خليل جبران، كمال جنبلاط، سلطان باشا الأطرش، أنطون سعادة، وأذكر ابو العلاء المعري وابن خلدون وأمراء لبنانيين كثر، والأم تيريزا ولينين. ونحت ورسم وجوه فلاحين وثوار وقرويين، فكان لكل وجه نحته باصابعه الساحرة نص غير مكتوب يرشقك بكثير من الأسئلة وعلامات التعجب! فأراد عبر الفن أن يصهر التراب من جديد، غير آبه لبهارج الفن ومعارض المدينة، مكتفيا بصور القرية ومناخات دفئها وحنينها، رغم أن في ذلك ظلما لعبقريته التي يجب أن تنال حقها بعد رحيله الموجع.
غاب الرجل ولكن وجوه منحوتاته ستبقى مبتسمة في عيون من ينظر إليها بعين رائية، فمتحفه في بلدته عيحا سيبقى بلا جدران كي تتنفس وكي يبقى شاخصا إليها من عليائه.












