الخطر المقبل: بيع أصول الدولة وممتلكاتها
أصبح الجميع يتعامل مع فكرة إنشاء صندوق سيادي من أصول
الدولة، لمعالجة الخسائر المترتبة عن الانهيار المالي، كأمر واقع لا مفر
منه. هذا ما كشفته التسريبات من آخر اجتماع للجنة تقصّي الحقائق المنبثقة
من لجنة المال والموازنة، والتي أخذت على عاتقها مقاربة الأرقام الماليّة
التي يطرحها كل من مصرف لبنان والحكومة ومحاولة التوفيق بينها. فالنوّاب
انتقلوا عمليّاً إلى مناقشة الجهة التي ستوكل إليها إدراة هذا الصندوق.
وبدا أن هناك تحفّظات كبيرة على إعطاء مصرف لبنان هذه الصلاحيّة، كما
اقترحت جمعيّة المصارف في خطّتها، فيما طالب بعض النوّاب بوضع هذا الصندوق
تحت إدارة مستقلّة.
في الواقع، كان من الواضح أن الدخول في هذا
النقاش ترافق مع رفض النواب داخل الاجتماع نفسه لبعض المعالجات البديلة
التي جرى الحديث عنها سابقاً، خصوصاً حين ظهر أنّ هناك إجماعاً بين النواب
على المعالجة التدريجيّة للخسائر، بما يوحي برفض فكرة تحميل رساميل المصارف
لجزء أساسي من الخسائر. كما ظهر أن هناك إجماعاً على رفض فكرة الهيركات
وأي مساس بالودائع بشكل مطلق، بما يعني الابتعاد عن بعض الأفكار التي طرحت
لتحويل بعض الودائع الكبيرة إلى أسهم في المصارف لمعالجة الخسائر في
ميزانيّاتها.
بإختصار، كل الدروب تؤدي إلى هذا الصندوق السيادي كمعبر إلزامي للمعالجة. فما هي حكايته وكيف سيمسّ بأصول الدولة؟
تدرّج في طرح الفكرة
طوال
الفترة الماضية، جرى العمل تدريجيّاً على دس الفكرة في النقاش المتعلّق
بالمعالجات المحتملة للأزمة الماليّة، وصولاً إلى مرحلة النقاش الصريح
حولها اليوم، في لجان المجلس النيابي. في أولى مسودّات خطّة الإصلاح
الحكومي، جرى الحديث عن “صندوق التعافي”، يمكن من خلاله معالجة جزء من
الخسائر الواقعة اليوم عبر تحويل فئة من الودائع المصرفيّة إلى هذا
الصندوق. باختصار، تكمن الفكرة في ضم “الأموال المنهوبة التي يجري
استردادها وأصول أخرى للدولة” إلى هذا الصندوق، والتعويض من خلاله على بعض
المودعين بدل تحميلهم الخسائر الصريحة.
عمليّاً، كانت الفكرة تعني استعمال أصول الدولة للتعويض على
المودعين، ومعالجة الفجوة الكبيرة في ميزانيّات المصرف المركزي والمصارف
التجاريّة، خصوصاً أن المصدر الآخر لموجودات هذا الصندوق، أي استرداد
الأموال المنهوبة، لا يمثّل مصدراً واقعياً لتزويد الصندوق بأي أصول جديّة.
لكنّ
النسخة الأخيرة من خطّة الحكومة لم تتضمّن فكرة “صندوق التعافي”، بل تركت
الباب مشرّعاً أمام الاحتمالات الممكنة للتعامل مع أصول الدولة، عبر الحديث
عن “شركة لإدارة الأصول العامّة”، وهي شركة يُفترض أن تودع فيها الأصول
الحكوميّة الرئيسيّة، بإستثناء النفط والغاز، بهدف إعادة هيكلة هذه الأصول
والبت بمستقبلها خلال فترة 10 سنوات. وكان من الواضح أنّ هذه الشركة ستلعب
دوراً كبيرة في معالجة الخسائر الماليّة الواقعة اليوم، خصوصاً أن
الغالبيّة الساحقة من المقترحات الأخرى التي قدّمتها الخطّة لم تكن مقترحات
جديّة أو واقعيّة، مثل الحديث عن استرداد الودائع التي جرى تهريبها من
لبنان، واستعادة الأرباح المفرطة التي حققتها المصارف اللبنانيّة في
السابق، والحديث مجدداً عن استرداد الأموال المنهوبة.
في الواقع،
احتوت خطة الإصلاح الحكومي على فكرة جديّة واحدة ،غير تحميل الخسائر للدولة
بالتنازل عن أصولها، وتركّزت تحديداً على شطب رساميل القطاع المصرفي
وإعادة رسملة المصارف، عبر تحويل جزء من الودائع إلى أسهم فيها. لكنّ هذه
الفكرة باتت اليوم خارج النقاش الجدّي، بعد الهجوم القاسي الذي تعرّضت
لاحقاً من مروحة واسعة من الأقطاب السياسيّة والروحيّة، فيما كانت رصاصة
الرحمة انضمام بعض المشاركين في الحكومة أنفسهم إلى هذه الجبهة مثل رئيس
التيّار الوطني الحر. يشرح البعض هذا الرفض الواسع للفكرة بكونها تمس ببعض
التوازنات والاعتبارات الطائفيّة داخل القطاع، خصوصاً أنها تعني شطب حصص
شرائح واسعة من حصص مالكي المصارف الحاليين، في مقابل استبدالهم بمالكين
آخرين من أصحاب الودائع.
في كل الحالات، جاءت خطّة المصارف لتصبّ في المنحى نفسه، من
ناحية مقاربتها لأصول الدولة ودورها في معالجة الخسائر. فخطّة المصارف
احتوت على الشرح الأكثر دقّة لطريقة التعامل مع هذه الأصول، حين نصّت على
حصرها ضمن صندوق يوضع بإدارة مصرف لبنان، ويكون بمثابة ضمانة لديون المصرف
المركزي على الدولة اللبنانيّة. وبما أن المصرف المركزي مدين بدوره
للمصارف، المدينة للمودعين، فالأصول ستكون في المحصّلة ضمانة لالتزامات
القطاع المالي بأسره للمودعين. وباختصار، ستكون جميع هذه الأصول المودعة في
الصندوق في المرحلة اللاحقة مصدراً من مصادر تسديد كلفة الخسائر الناتجة
عن الانهيار المالي، خصوصاً لكون حجم الخسائر الضخم مقارنةً بحجم الأصول
التي يمكن إيداعها في هذا الصندوق، لا يترك مجالاً للشك بأن الطريقة
الوحيدة لسداد قيمة الخسائر ستكون التنازل عن أصول الصندوق نفسه.
إشكاليّات العدالة والواقعيّة
من
الواضح أن هناك العديد من الأفكار حول طريقة عمل هذا الصندوق. وهي تتنوّع
من توزيع حصص في أصول الدولة نفسها، إلى إعتماد نماذج الشراكة مع القطاع
الخاص وصولاً إلى إعتماد أصول الدولة وأرباحها كضمانات يتم خصخصتها لاحقاً،
لسداد قيمة الخسائر. لكن كل هذه النماذج تتشابه في احتوائها على قدر كبير
من الإشكاليّات التي لا تنتهي.
عمليّاً، ستكون نتيجة كل هذه النماذج حقيقة واحدة: سيتم
استعمال أملاك الدولة لإطفاء خسائر القطاع المالي اللبناني المتعثّر.
الإشكاليّة الأولى هنا هو تناقض هذه الفكرة مع توجّهات الأسواق الماليّة
منذ الانهيار المالي الذي حدث سنة 2008، والتي تعتبر أن فكرة إنفاق الأموال
العامّة لإنقاذ قطاع مالي متعثّر في أي دولة بات ينطوي على درجة كبيرة من
الظلم للغالبية الساحقة من المواطنين في هذه الدولة. ببساطة، من غير
المعقول أن يخسر المواطنون من الأصول التي يملكونها بشكل جماعي لسداد خسائر
نتجت عن قرارات استثماريّة غير حكيمة اتخذتها إدارات مؤسسات خاصّة، حتّى
حين يتعلّق ذلك بالاستثمار في ديون سياديّة كالسندات الحكوميّة والتوظيفات
في المصارف المركزيّة.
وبمعزل عن مسألة العدالة، فثمّة إشكاليّات
أخرى تتعلّق بواقعيّة الفكرة. فاستعمال الأصول العامّة كضمانة للديون
المتوجّبة على الدولة لصالح المصرف المركزي، المدين للمصارف الخاصّة
المحليّة، سيثير حساسيّة الدائنين الأجانب، خصوصاً أن ذلك سيعني تراجع
الملاءة الائتمانيّة العامّة للدولة بفعل التنازل عن أصولها، في مقابل
تعزيز ضمانات الدائنين المحليين والتمهيد للتعويض عليهم بأصول الدولة.
وبذلك، ستمثّل هذه الفكرة عقبة في طريق التفاهم معهم على أي اتفاق لإعادة
جدولة سندات اليوروبوند التي يحملونها.
وبالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن يثير هذا النوع من الخطط
حساسيّة بعض الدائنين المحتملين، كصندوق النقد الدولي، الذي تراهن عليه
الحكومة للحصول على السيولة في المرحلة المقبلة. فهذه الخطط ستعني تنازلاً
من الدولة عن جزء من مواردها، التي يمكن أن تمثّل مورداً لسداد التزاماتها
المستقلبيّة، في التعامل مع جزء من الديون المحليّة السابقة. وفي كل
الحالات، من المعروف أن الصندوق بحكم توجّهاته المعروفة يملك أيضاً حساسيّة
من فكرة إنفاق الأموال العامّة للتعامل مع حالات التعثّر التي تصيب القطاع
المالي الخاص.
صراع مصالح
بمعزل عن كل هذه الإشكاليات
والهواجس، من المعروف أن جميع الخطط التي يجري العمل عليها ما زالت تتم وفق
قاعدة الارتجال، الهادف إلى التعامل مع المصالح المتناقضة. هذا تحديداً ما
ظهر عندما وضعت الحكومة في خطّتها مقاربة لقياس خسائر القطاع المالي، ثم
بادرت إلى التوجّه إلى مصرف لبنان لتعديل مقارباتها، بعدما تبيّن أن صندوق
النقد يشترط تفاهم المصرف المركزي مع الحكومة قبل مناقشة أي خطة أو برنامج.
وهذا ما يظهر اليوم مع توجّه الدولة بأسرها إلى مقاربة الصناديق السياديّة
للتعامل مع خسائر المرحلة، بعد أن تبيّن وجود تناقضات في مصالح الأطراف
المختلفة تعرقل جميع الطروحات الأخرى.
بإختصار، يقوم هذا النمط في التعامل مع خطط الدولة نحو هذا النوع من المعالجات غير العادلة، وغير الواقعيّة في الوقت نفسه، للأسباب التي ذكرناها. وبذلك، سيبقى التخبّط والعشوائيّة في المقاربات العنوان الوحيد للمرحلة، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى مضاعفة جميع عوارض الانهيار الذي نعيشه اليوم.
علي نور – المدن