قال يوماً لجنبلاط: لبنان يدوّن على هويتنا مذهباً لكنك أنت فوق المذاهب
رحل الرجل الاستثناء تاركاً صروحاً للعلم والاعتدال… وثمرة في أزهر البقاع
عارف مغامس
المسافة بين مكسة التي شكلت تاريخياً بوابة البقاع المفتوحة على الجبل وبيروت، وبين مجدل عنجر بوابة لبنان نحو سوريا والى راشيا والجنوب، مسافة لا تقاس الا بنبض رجل أمسك بمفاتيح تلك الأبواب، كاشفا عتمة الطريق بنور علمه، وشعشعانية عقله الكبير، ورحابة فكره النير، سالكا بين بوابتين يعرف جيدا أن الطريق الأقرب للتقدم والخلاص وللاعتدال والانفتاح والتطور وللاسلام المتنور هو في بناء صروح العلم ودور الفكر والمعرفة، فكان أزهر البقاع الشريف ثمرة هذا الرجل الاستثناء، العلامة الجليل والشيخ المعمم، مفتي زحلة والبقاع الشيخ خليل الميس، باني ومؤسس صرح أزهر البقاع الشريف، الذي يرحل اليوم بصمت، كما كانت حياته المثقلة بالثمار الناضجة، والتي كانت تطعم لجوعى المعرفة بصمت العالم، ونورانية العارف، وسكينة المؤمن الواثق من قدرته على التغيير ولو بصمت.
علامة بحجم المفتي الميس الذي ملأ البقاع خيرا وفكرا وعلما وايمانا وشغل حيزا واسعا في حياة البقاعيين، لا يقوى الموت على تغييبه، وإن استطاع المرض العضال أن ينتزع منه الجسد، بعد مقاومة امتدت لسنوات، لكن الروح التي طالما نسجت فوق سماء البقاع قميصا مشعا من شبكة الامان الوطنية والاجتماعية، عانقت العمامة البيضاء بوهج تقية وانسكاب روحي عميق زادها الوجه قبس نور حين تكللت فوق ناصية مفتي المحبة والسلام والطمأنينةالروحية، حتى باتت روحا اثيرية تمد البقاع والبقاعيين بكبرياء المواقف ووقفات الرجال العلماء الفقهاء الاتقياء الانقياء.
فأنى للبقاعيين وللبنان مفتيا يشيد صرحا للعلوم الدينية والاسلام المعتدل المنفتح في أوج تسلط الوصاية وتمدد التطرف الديني واهتراء المؤسسات وانكسار منظومة القيم، وأنى لنا جميعا مفتيا مرشدا وعالما وناصحا ومرجعية وطنية تفيأنا ظلالها في زمن الانقسامات والصراعات وفي كل المحطات الدقيقة، وهو الدليل والفقيه المتعالي فوق كل الالقاب والاوصاف، الزاهد في مسلكه اليومي، وعفويته التي وضعته في موقع عين القلب عند كل سامع لاثير كلامه الايقوني المشتعل بجمر ثقافة شمولية جامعة مانعة، وبليغ فصاحة محلقة متخصصة في سيمياء العلاقات بين لفظ جليل ومعنى أصيل، إذ انها من المرات القلائل، كي لا أقول المرات النادرة، منذ زمن، التي يجمع فيها القدر رجالا في رجل وفقهاء في فقيه عالم.
محطات كثيرة في مسيرة المفتي الميس وهو الذي عاصر الكبار من رؤساء وقادة، منهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والشهداء كمال جنبلاط والمفتي حسن خالد ورفيق الحريري ،والإمام المغيب موسى الصدر.
في 21 ايلول من العام 2014 وخلال جولة لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط في البقاع وأثناء زيارته أزهر البقاع واجتماعه بالمرجعيات البقاعية توجه المفتي الميس بكلمة لجنبلاط فقال: “ان لبنان يدوّن على هويتنا مذهبا ولكنك انت فوق المذاهب” وتابع “استقبلك فعلك، وقولك، وليس كثير عليك انت ابن الرجل الكبير والشهيد ابن الرجل الذي لم يجرؤ من اغتاله ان يقول قتلت كمال جنبلاط”.
كان الراحل يدرك معدن الرجال ويضع الكلمة في موضع الحق العلوي ويصطفي العبارة من منبع عميق الاغوار، لم تغره الوجاهات ولا المحافل الخاوية، وكان متيقن أن مقصلة الغدر التي اغتالت الشهيد كمال جنبلاط وفجرت بحقدها اطنان المتفجرات في جسد الشهيد رفيق الحريري، غير قادرة على اسكات اصوات الأحرار والمناضلين، وستبقى مقصية وسجينة سجانها الطاغية، بينما ستبقى الحقيقة التي طالب بها سماحة المفتي، والعدالة التي آمن بها الى جانب عدالة السماء بعد اغتيال الرئيس الحريري، ارفع بكثير من خطابات عنصرية يستقتل بعض هواة السلطة والتسلط لإعادة انتاجها اليوم.
يغيب المفتي الميس وتبقى مآثر افتائه وغزارة فكره واستشرافات رؤاه منارات خالدة وبصمات غير قابلة للزوال، وهو في عليائه ما فتأ منشغلا بنور الحق.
جريدة الانباء الالكترونية