“الحرب الأهلية الباردة”: الإنقاذ مستبعد وحزب الله يتقوقع شيعياً
ما يشهده لبنان يفوق الوصف: مخاطر محدقة بالأمن الاجتماعي أكبر من أن يتصورها البعض. ولا يزال بعض اللبنانيين يتسلّح بالأمل، منتظراً معجزة تقيه شرّاً مستطيراً لا يبقي ولا يذر. لكن الوقائع الميدانية لا تشير إلى إمكان الإنقاذ.
غياب الحاجة للبنان
وبكلام واضح وجارح ربما، لم يصل إلى لبنان ما وصل إليه، ليحصل تراجع عن مسار الانهيار. وأسبابه نقاش يطول ومستفيض. تتجمّع فيه وتتشابك معطيات داخلية وخارجية، لا تبرئ مقاربتها القوى السياسية بنسب متفاوتة، نظراً لدورها وتأثيرها في المعادلة وفي النتائج الخطرة التي بلغها البلد.
وتعود أسباب ما جرى إلى تعوّد الطبقة السياسية على تدخل دولي عاجل وسريع لمنع الانهيار. وهذا تقدير خاطئ.
لقد أُخذ لبنان إلى سياسة المحاور، التي لا تسمح إلا بقضم دوره ومقدراته لصالح حسابات المحور. وهناك أيضًا منطق مقارعة العرب والغرب، في ظل تحولات جذرية جيوستراتيجية يعيشها العالم كله.
والكلام الجارح أكثر، يتجاوز التسوية الرئاسية التي حصلت في العام 2016، والتي ما كانت لتحصل لو توافرت رؤية بعيدة المدى لما يحدث دولياً ويدفع لبنان إلى الحضيض، بسبب غياب تلك الرؤية لدى الأطراف المحلية. ولا يتعلق الأمر بتحميل المسؤولية لطرف أو لشخص أو لجهة، بل لمنطق تكريس هيمنة طرف على حساب الآخرين، وانتصار خيار سياسي، من دون أي برنامج عمل إصلاحي أو خطة أو رؤية اقتصادية مختلفة عما هو متوفر منذ سنوات في لبنان، والذي يقوم اقتصاده على الخدمات وعلى الدعم الخارجي.
والعالم صارت حاجته منعدمة للبنان كسوق مالية، بسبب التطورات والمتغيرات.
استقواء وتناسل الانقسامات
لكن الأهم هو الحسابات الشخصية والأنانية التي تحكمت بمسار التسوية. وهي عملت على اختصار اللبنانيين واختزالهم بأطراف ثلاثة معروفة لا أكثر. والأطراف هذه انحصرت غاياتها وأهدافها في الانتقام من الآخرين وتحجيمهم، وإطلاق رغبات جامحة.
والأطراف هذه راحت تصطدم بمن يُفترض أنهم شركاؤها في الطبقة السياسية، وتصطدم كذلك بكل الجهات المعارضة، ساعية إلى تغيير قسري وفرض نفسها بالقوة. وهكذا راحت تتناسل الانقسامات المتوالية، إما بنتيجة إغراءات أو تهديدات. وعلى وقعها تبرز على مسامع اللبنانيين خطابات مرتفعة السقف، لكنها لا تؤدي إلى أي رؤية موحدة أو واضحة لمعالم وبرنامج مستقبلي.
ويستمر هذا الصراع بأبعاده الخطيرة، التي لا تقتصر على المجريات السياسية ولا المالية والاقتصادية، بل على الجانب الاجتماعي. هذا فيما تغيب مقاربات عقلانية للسياسة، حتى لدى غالبية المتحمسين لخوض غمار السياسة من داخل الطبقة أو من خارجها. وتترتب على ذلك تبعات خارجية كثيرة، ليس فقط حول الجهات “المدنية” التي يلتقيها الديبلوماسيون. وقد يكون هذا نتاج مسار معمم دولياً، وتشهده أوروبا كما أميركا.
تسوية جديدة؟!
لذا، لا تنذر الأوضاع القائمة بغير الإحباط التعب والخوف على المصير والمستقبل. ولا مؤشرات إلى إمكان تحقيق خروق على خطّ تشكيل الحكومة. وأسباب ذلك كثيرة: داخلية وخارجية. وأساسها يكمن في ما كرسته تسوية 2016، والتي تشهد محاولات لإعادة إحيائها، من خلال الشروط والشروط المضادة على طريق تشكيل الحكومة.
وفي هذا السياق عقد اجتماع بين نجيب ميقاتي وجبران باسيل على عشاء مساء يوم الأحد، للبحث في كيفية تذليل العقبات الحكومية. ولكن ما ظهر هو أن الشروط هدفها أبعد من تشكيل الحكومة: استشراف المرحلة المقبلة في حال كان لبنان مقبلاً على فراغ. أو نسج تسوية جديدة تكون عنواناً لمرحلة جديدة ومتجددة من عمر بعض أركان هذه الطبقة السياسية. وهذا السعي هو للاستفادة من الظرف القائم، طمعاً بتحسين أوضاع بعض الأطراف.
وإذا كان انفجار المرفأ، والانهيار المتوالي مالياً واقتصادياً، والتوترات والمخاطر الأمنية في الجنوب، لا تحمل القوى على تشكيل حكومة، فأي شيء آخر سيحمل على تشكيلها، ومن هو القادر على الضغط للتشكيل؟!
ثمة من يعتبر أن الإدارة القائمة حالياً عبر حكومة تصريف الأعمال، وبعض هوامشها، لن تكون قادرة على إيجاد الحلول. وذلك يوضح مسار الانهيار المتفجر في لبنان مستقبلاً في مشاهد واضحة المعالم، تعكس حرباً أهلية من دون اشتباكات مسلّحة ولا معارك ولا خطوط تماس ومتاريس. بل بتكريس خطوط تماس نفسية ومعنوية واجتماعية على أسس طائفية ومذهبية. فتستنفر الطوائف بعضها بعضاً، ويتجه الجميع إلى إحياء منطق الأمن الذاتي، لتخفيف الانفجار الاجتماعي الذي يقترب أكثر فأكثر.
حزب الله وعداواته
ومن كان ينظر إلى حزب الله بأنه الأكثر تجنباً لتداعيات الضغط والانهيار، أصبح ينظر إلى تأثير الأزمة الكبير عليه، خصوصاً أنه يضطر إلى التقوقع أكثر داخل الطائفة الشيعية، ويخسر قدرته على التمدد في البيئات الأخرى.
وهناك من يعتبر أن حزب الله ارتكب خطأً مثلّث الأضلاع، أو ثلاثة أخطاء في خطأ: اشتبك مع السنة بداية، والدروز ثانياً، والمسيحيين الموارنة ثالثاً. والمفارقة أن كل من اشتبك معهم يعمل على اتهامه تهمًا متعددة. فعشائر العرب وصفهم حزب الله بالعصابات. والدروز في شويا أصبحوا خارجين على الوطنية وعملاء ومضللين. أما الموارنة فعملاء ومخونون وأصحاب خطاب يدعو إلى الالتقاء مع العدو الإسرائيلي.
هذا المنطق الذي يسعى حزب الله إلى تكريسه يصب في “تكسير” صورة الذكاء الهادئ. كذلك ينعكس سلباً على وضع الرئيس نبيه برّي كحليف للحزب، وعلى وضع التيار العوني كحليف للحزب نفسه. وهذا النوع من الضغط يستمر في إطار استمرار كل أنواع الضغوط، وجميعها تؤدي إلى مزيد من الانهيارات.
المدن