“القومية اللبنانية” ومشروع حزب الله.. تهديد للصيغة اللبنانية
تلجأ القوى والجماعات في حالات انهيار مجتمعاتها إلى مناجاة متوهمة، لتستمد قوة تحفزها على البقاء والنضال. بعضها يلجأ إلى الخيار الديني أو الطائفي، ويرتكز على أساطير محفزة على الصمود والبقاء. جماعات أخرى تلجأ إلى إحياء النزعة القومية لتعاضد الجماعة وحفاظها على وجودها ودورها.
خيارات خلاصية
ويعيش لبنان حالياَ في مرحلة من هذا النوع، ويشهد تحولات وتغيرات مأزقية عميقة. وهناك من لجأ إلى المشرقية لمواجهتها والخلاص من المأزق. أطراف أخرى اعتمدت استعادة تراث إسلامي مهدوي وخلاصي، كما فعل حزب الله، وهو يلتقي مع العونيين في نزعة ذهابهم الخلاصي نحو الشرق. وعون هو صاحب نظرية التحالف المشرقي. وهناك جهات مسيحية تتنامى لديها المطالبة بالفيدرالية أو التقسيم. ولا يخلو الأمر من جماعات تسعى لإحياء مبدأ العروبة، وتضم لبنانيين مسيحيين خيارهم عربي لمواجهة مشروع إيران الفارسي، وغلبة حزب الله. وهذا ما عرفه وخبره سابقاً مسيحيون في مواجهتهم السلطنة العثمانية بالعروبة. وهناك مسيحيون آخرون يختارون الخلاص من بوابة إحياء القومية اللبنانية.
نجاح الصيغتين
وفي حالات الانهيار تتنامى النعرات والعصبيات. وهذه حال لبنان اليوم، والذي كان “ذا وجه عربي”، وصار “عربي الهوية والانتماء” حسب اتفاق الطائف. ونجحت الصيغتان لسبب أساسي: اعتناق لبنان الانفتاح والقيم الإنسانية الغربية المعولمة، إضافة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبهذا المعنى كان لبنان المزدهر واحة عربية لحرية العرب، وحاجة للدول العربية كلها. أما لبنان الفيدرالي فهو تخلّ عن تجربة أرادها رواد “اللبنانية” نموذجاً للشرق وللعالم العربي.
وما أنتجه لبنان الـ 10452 كلم مربع خلال 100 عام، هو ثروة إنسانية وتجربة يعتد بها، رغم المآسي والسقوط في دوامة الحروب الطائفية والسياسية. واختبر اللبنانيون نماذج الفدرلة، إبان الحروب، فأدت إلى تذرر وتقاتل داخل كل كانتون.
قومية خرافية
والاجتماع السياسي اللبناني قائم على تعاقد وطني دستوري، على خلاف الدول القائمة على عقيدة قومية شوفينية. والقومية الشوفينية غالباً ما تقوم على خرافات إثنية أو عرقية أو دينية. وهذه حال “القومية اللبنانية” المناقضة لجوهر الصيغة اللبنانية. وحتى في الأدبيات المارونية السياسية، لبنان هو التعدد والتنوع.
أما مفهوم القومية اللبنانية فلا يتسع تاريخياً إلا لما يسمّى الشعب الماروني. ومن الصعب أن تقبل القومية اللبنانية باقي المكونات اللبنانية الأخرى. لذلك تصبح عنصر شرذمة وتشظ. وهي بهذا المعنى مناقضة لأي طموح قومي.
الخيار الريادي
قبل ذهاب البطريرك الحويك سنة 1919 إلى مؤتمر فرساي للمطالبة في إنشاء كيان سياسي لبناني، كانت النخب المسيحية أمام خيارين: وطن قومي لمسيحيي الشرق، أو لبنان الكبير الذي يضم تنويعات مختلفة من الجماعات البشرية والسياسية. وتنبّهت النخبة المحيطة بالبطريرك إلى أن شرط نجاح مشروع لبنان المرغوب، هو أن يكون “بالمعنى المسيحي للكلمة” قادراً على احتواء التنوع، ويكون المسيحيون فيه قادرين على تقديم مثال لفكرة الدولة الحديثة والعصرية في هذا الشرق.
وهذا هو دورهم الريادي الذي ما زلنا نشهد عليه حتى يومنا هذا. ولو اختار المسيحيون الخيار الثاني أي وطن قومي لمسيحيي الشرق، لكان لبنان اليوم دولة عدوة لمحيطها، على صورة الكيان العنصري الإسرائيلي.
خيارات الطوائف
وقبل نشوء لبنان الكبير، وفي أعقاب انهيار السلطنة العثمانية، احتارت الجماعات الخاضعة للسلطة في الوجهة التي ستسلكها. هناك من دعا إلى بقاء الرابطة الإسلامية والخلافة، وتبين أن هذه الدعوة باتت مستحيلة في العالم المعاصر. آخرون دعوا إلى الرابطة العربية أو القومية العربية، وتبين أن الوحدة العربية ما بين موريتانيا والعراق متخيلة وغير قابلة للتحقق، إلا على مستوى اللغة والثقافة.
وكانت هناك دعوة إلى القومية السورية، وهي تنتمي بعاطفتها وخيالها السياسي إلى ما قبل الفتح الإسلامي. ولذلك تبدو متحفيّة، رغم أساسها الطبيعي والجغرافي. أما دعاة القومية اللبنانية فانتبهوا سريعاً إلى أنهم لن يتخطوا حدود القائمقاميتين، وليس المتصرفية. وسيكونون في منعزل فقير ومعرّض للنبذ والمجاعات. واثبتت الدعوة إلى نشوء كيانات سياسية حديثة، دستورية تعاقدية وديمقراطية، أنها أصلب من كل تجارب تاريخية أخرى، ومن كل مراهقة فكرية تظهر بين الحين والآخر في أحوال الانهيار والتأزم. والدليل على ذلك، أن الطائفة السنية الشديدة الصلة بعالمها الإسلامي والعربي الواسع، وبعد مغامرات العروبة الناصرية والفلسطينية، باتت اللبنانية متأصلة في وجدانها. وهي أصبحت شديدة التقدير لاستقلال لبنان وصيغته وميثاقه. والطائفة الدرزية بعد خياراتها الأممية واليسارية والعروبية، عادت إلى حضن الكيان، الذي لا يتأمن إلا بنجاح الصيغة اللبنانية. وبالطبع، فإن قدر المسيحيين وخيار كنيستهم، أن يكونوا مؤتمنين على الكيان و”ورسالته”. وإذا كان من مهمة لهم راهناً، فهي بـ”عودتهم” إلى 10452 كلم مربع.
وإذا كان هناك الآن لحظة مأزق، وخطر على الصيغة اللبنانية يتمثل بـ”شيعية سياسية”، يقودها حزب الله، منضوية في مشروع إيراني توسعي. فإن نخبة الطائفة الشيعية، وقسم متعاظم من جمهورها، يدب فيهما الحنين لنعم الصيغة اللبنانية ومكتسباتها. وربما لا شيء يشبه الجموح لدى الشيعية السياسية، إلا طروحات القومية اللبنانية أو الفيدرالية أو التحالفات المشرقية. وهذه كلها تطيح بالجمهورية ومرتكز وجودها.
منير الربيع – المدن