إسرائيل والشيطان الذي لا تعرفه
تجدّد الـDeal القديم – الجديد بين إسرائيل والنظام السوري، مرّة أولى عام 2000 برعاية إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون الديمقراطية. إذ منحت هذه الإدارة الشرعية السياسية لتعديل الدستور السوري وتنصيب بشار الأسد رئيساً خلفاً لوالده حافظ. وفي العقد الأوّل من حكمه، حافظ بشار الأسد على التزامات والده السابقة بإبقاء جبهة الجولان هادئة مقابل عدم زعزعة نظامه الأقلّوي.
شكّلت الثورة السورية عام 2011 فرصة لتأكيد التزامات النظام السوري تجاه الإسرائيليين القلقين في ذلك الوقت من مواجهة “عدوّ لا يعرفونه”، بدلاً من العدوّ “الأقلّ سوءاً”، “الذي حافظ على الهدوء على جبهة الجولان طوال خمسين عاماً”.
تلاقت المصلحة من جديد بين بشار والإسرائيليين، فتجدّد الـDeal هذه المرّة بينهما عبر رسائل متبادلة من خلال الدبلوماسية الروسية، على قاعدة الهدوء في الجولان مقابل عدم زعزعة حكم بشار على “سوريا المفيدة” بحسب طلبه.
فماذا حصل كي نفضت إسرائيل يدها منه، وتخلّت عن التفاهم الضمنيّ الذي دام أكثر من خمسة عقود مع نظام آل الأسد؟ ولماذا تحوّل بشار بالنسبة لتل أبيب “الشيطان الأخطر من أيّ جماعة أخرى”؟ وكيف ينظر الباحثون والمؤرّخون والضبّاط الإسرائيليون إلى هذا التحوّل الكبير؟
بشّار الخيار “الأقلّ سوءاً”
قبل مناقشته الخيار الذي يجب أن تتبنّاه إسرائيل في الموقف من النظام السوري، جادل البروفسور يارون فريدمان (أستاذ التاريخ في جامعة بن غوريون في النقب) في مقالته في صحيفة معاريف بعنوان: “الجيش السوري فوجئ ولم يكن مستعدّاً.. لقد انهارت النظريّة في سورية أيضاً”، وهي من أسباب الانهيار السريع للجيش السوري أمام تقدّم المجموعات المسلّحة التابعة للمعارضة السورية.
لا أحد يجد حتى الآن تفسيراً لمقامرة بشار الأسد بورقة التحالف مع روسيا، والتصاقه بالمشروع الإيراني وعدم الاستماع إلى نصائح موسكو
رأى البروفيسور يارون فريدمان في مقالة له في صحيفة “معاريف” أنّ الانهيار يعود إلى تراجع الدعم الروسي لنظام الأسد، وضعف الجيش السوري الذي تحوّل، برأيه، إلى جيش من المتطوّعين مع إلغاء الخدمة الإلزامية، بالإضافة إلى انخفاض الحوافز للانضمام إلى الجيش بسبب ضعف رواتب الجنود والضبّاط. كما رأى أنّ اعتقاد النظام بأنّ محافظة إدلب، المعقل الأخير للمعارضة منذ الحرب الأهلية، لم تعد تشكّل تهديداً له، كان افتراضاً خاطئاً، وساهم في هذا الانهيار السريع.
في تقويمه لما جرى، كتب فريدمان أنّ إسرائيل ستستفيد من ضعف الوجود الإيراني في سورية، وهو ما سيؤدّي إلى تقليص إمدادات الأسلحة الإيرانية لـ”الحزب” في لبنان… لكن، برأيه، على إسرائيل أن تأخذ في اعتباراتها بدائل الوضع القائم.
في الردّ على سؤال طرحه “من الزاوية الإسرائيلية: هل يعدّ النظام السوري الخيار الأقلّ سوءاً؟”، أشار في مقالته إلى أنّ “الإسلاميين الذين يقودون المعارضة يتبنّون أيديولوجية دولة شريعة سنّيّة متشدّدة، ويمكن أن يؤدّي انتصارهم، كما حدث قبل عقد، إلى تدفّق الجهاديين من كلّ أنحاء العالم إلى سورية”.
تساءل: هل إسرائيل راغبة في ظهور نسخة جديدة من الدولة الإسلامية على حدودها؟ وخلص إلى القول إنّ “النظام السوري الحالي هو عدوّ قديم ومألوف، وقد حافظ على هدوء جبهة الجولان على مدار خمسين عاماً”، في إشارة واضحة منه إلى أنّ بشار الأسد كان أن يمثّل بالنسبة للإسرائيليين في الوقت الحالي الخيار “الأقلّ سوءاً” بالمقارنة مع المتشدّدين الإسلاميين.
التّعامل مع “الشّيطان الذي لا نعرفه”
موقف فريدمان هذا لا يلقى صدى لدى الضبّاط الإسرائيليين، إذ اعتبر عاموس يدلين (رئيس سابق للاستخبارات الإسرائيلية) وأودي أفينتال (عقيد احتياط) في مقالتهما في صحيفة معاريف أنّ “من الأفضل أن تتعامل إسرائيل مع “الشيطان الذي لا تعرفه”، بدلاً من العدوّ المألوف الذي يشكّله بشار الأسد. كما اعتبرا أنّه “بعكس التخوّفات من التغييرات المتوقّعة في سوريا، فإنّ الفرص الكامنة على صعيد المصالح الاستراتيجية لإسرائيل تزيد على المخاطر”.
في تقويمهما لمخاطر المجموعات المتشدّدة في سوريا، يستبعد الكاتبان أن تقوم مجموعات المتمرّدين السنّية الكثيرة في سورية بتوجيه سلاحها إلى إسرائيل حالياً. وبرأيهما، فإنّ “هذه المجموعات بعكس إيران والنظام السوري لا تملك مشروعاً نووياً أو صواريخ بالستية أو مصانع متطوّرة لتصنيع السلاح، ولا توجد (وراءهم) وراءها قوى عظمى عالمية أو إقليمية مستعدّة لاستثمار المليارات فيهم”.
في نقد واضح لنظريّة “بشار الأقلّ سوءاً”، كتبا في المقالة: في مقابل الإيجابيات الواضحة لإسرائيل نتيجة ما يحدث في سورية، هناك من يرى أنّ النظام (السابق) في سورية هو “الأقلّ سوءاً”، ويدّعي أنّ من الأفضل لإسرائيل أن تتعامل مع “الشيطان الذي نعرفه”. وبحسبهما، فإنّ هذا النظام هو عنوان يمكن إجراء حوار ردع فعّال معه (يسمح لسلاح الجوّ بحرّية حركة)، كما أنّه يقمع القوّات الإسلامية البعيدة عن كونها “محبّة لصهيون”، ويحافظ على استقرار معيّن في سورية، وعلى السلاح غير التقليدي، وخصوصاً في أراضيها.
كشف الكاتبان عن رأيهما بشكل واضح: من الأفضل لإسرائيل في ضوء الأوضاع الحالية أن تتعامل مع “الشيطان الذي لا تعرفه”، بشرط أن يقود هذا الأمر إلى إضعاف المحور الشيعي وإيران في سورية بصورة عامة، وهو ما يعني تغييراً دراماتيكياً وإيجابياً لمصلحة إسرائيل في ميزان القوى الإقليمية. وفي هذا السياق، يجب ذكْر المقولة المشهورة لرئيس الحكومة الأسبق مناحيم بيغن بشأن حرب إيران – العراق التي استمرّت 8 أعوام: “تمنّيت النجاح للطرفين”.
الأسد أخطر من الآخرين
في مقابلة مع BBC كشف حنان غيفن (قائد سابق في وحدة الاستخبارات العسكرية 8200) أنّ ضعف نظام بشار الأسد، بالإضافة إلى قدرة إيران على فرض سيطرتها عليه، “جعل الوضع السياسي في سوريا أكثر تهديداً لإسرائيل مقارنةً بسيطرة جماعات معارضة للحكم في دمشق”.
لفت غيفن إلى قلق إسرائيل من صعود الجماعات المتشدّدة إلى السلطة في سوريا، لافتاً إلى أنّ “إسرائيل قد تواجه خطراً من سيطرة جماعات مثل هيئة تحرير الشام على مناطق حدودية مثل الجولان المحتلّ، بسبب الأيديولوجيات المتشدّدة التي تتبنّاها هذه الجماعات”. وأكّد أنّ “وجود هذه الجماعات في المناطق الحدودية قد يشكّل تهديداً أكبر في المستقبل”.
بناء على هذا الوضع، رأى غيفن أنّ انفجار الوضع في سوريا هو أفضل لإسرائيل من بقاء نظام انتهت مدّة صلاحيّته.
استمرار شراء رضى إسرائيل وهم كبير
أصبح واضحاً سبب انفكاك الـ Deal بين آل الأسد والإسرائيليين، وكان أحد أسباب سقوط نظام بشار. وفي لحظة معيّنة ظهر أيضاً أنّ “الماركة” التي اختبأ وراءها النظام الأقلّوي لمدّة خمسين عاماً، وعنوانها حماية الأقلّيات، توقّف الجميع عن شرائها. إذ انتهت صلاحيّتها عند الدول كافّة، ونفض الدروز والأكراد يدهم من النظام.
من جهة أخرى، لا أحد يجد حتى الآن تفسيراً لمقامرة بشار الأسد بورقة التحالف مع روسيا، والتصاقه بالمشروع الإيراني وعدم الاستماع إلى نصائح موسكو بالدخول في حلّ سياسي. ورهانه على تحويل “سوريا المفيدة” إلى منصّة إيرانية والاستمرار في الوقت نفسه بشراء رضى الإسرائيليين بتحييد الجولان كان وهماً كبيراً.
كما كان وهماً استمراره في الاعتماد على الروس والإيرانيين في الدفاع عن نظامه، فيما تلقّت إيران و”الحزب” ضربة كبيرة، وتمّ تحييد جزء كبير من قوّة “الحزب”، بالإضافة إلى انشغال روسيا بتعبئة مواردها في حربها مع أوكرانيا.
المهمّ الآن أنّ سوريا الجديدة قد ولدت، والعيون حالياً شاخصة إلى طهران التي تتأرجح بين خيار القبول بما سيعرضه ترامب في ملفّها النووي، أو مواجهة تفكيك نظامها. الإيرانيون أذكى من بشار، وأعتقد أنّ حماية نظامهم تتقدّم على جميع الأولويّات.