القاموس العاطفي للبحر لليان كيفليك
صدر للكاتب الفرنسي يان كيفليك «القاموس العاطفي لبروتانييّ» عام 2013 وفي ما يشبه السيرة الذاتية المتكاملة إذ عمد المؤلف إلى استنفاد كل أحرف الأبجدية لتفاصيل تتعلّق بحياته الخاصة. ويبدو فيه صاحب كتاب «أعراس بربرية» (حاز عليه جائزة غونكور عام 1985) بعيداً كل البعد عن التوثيق (كما يشير العنوان) وفي حرف «الباء» مثل بروتابييّ كتب: «بروتانييّ هي أنا». أما اليوم فقد صدر له «القاموس العاطفي للبحر» ليكمل سيرته التي اعتبرها منقوصة في القاموس السابق حيث لم يتطرق لشغفه بالبحر وقد بدأه بأول كلمة من أول حرف «أ» مثل «عام» بالفرنسية «آنييه زيرو» أو «العام صفر» مع صورة لوالدته وهي حامل به وتركب الباخرة «الملك غرادلون» في 27 آب 1949 حيث كتب كل شغفه بالمحيطات ما قبل ولادته. وقد صرّح بأنه يعتبر كتابه هذا بمثابة التكريم للبحار على غرار جاك لندن وبول فاليري ودانيال ديفو، ونقتطف في التالي بعضاً من مقابلة أجرتها مجلة «لير» مع كيفليك حول كتابه الجديد:
**************************************
* مع اسمك «كيفليك» هل تولد لديك انطباع بأن هذا الأمر جعلك تتحضّر مسبقاً لعالم البحار؟
– كلمة «كيفليك» تعني «الحصان» في اللغة السلتيّة وفي هذا الإطار الإيتيمولوجي لا علاقة للكلمة بالبحر. ولكن أعود تاريخياً إلى قصة الملك غرادلون الذي كان يملك، كما الملك مارك، أذنيّ حصان وقد وصل بشهرته إلى المنطقة بعد أن تخطى خليج دوارنوني حين غمرت المياه بعد طوفان كبير مدينة إيس. هذه القصة بالذات والتي سمعتها مرات عديدة من أبي كانت كافية لتترك أثرها في مخيّلتي. ولقد قارنت نفسي مراراً بذلك الملك – الحصان الذي كان يجول فوق المياه المتدفقة! وعدا هذه القصة المسلّية والعائلية، لا شيء في تراث المنطقة والعائلة يجعلني أتعلّق بالبحر! ولكني بالتأكيد تأثرت بجدّي البحّار بقوة وأيضاً بوالدي الكاتب، فاجتمع الإثنان لأكون كاتباً متعلقاً بالبحار.
الأدب
* وهل عمل والدك الكاتب هنري كيفليك على جعلك تتوجه إلى الكتابة مثله؟
– باستثناء أبي ومهنته فأنا لطالما تحاشيت الخوض في كلمة «الأدب» التي تُمارس سلطتها على الكتّاب فأنا أتحاشى استخدام هذه الكلمة مع أنني ولدت لأتنفس الكلمات والكتابة ولا أتصوّر حياتي من دون الكلمات، هي علّة وجودي وسبب استمراري في الحياة، فهي ليست في روحي، هي أيضاً في جسدي، في جلدي.
* هل تتذكر أول كتاب قرأته في حياتك؟
– بالتأكيد. كان قاموساً صغيراً «لوبوتي لاروس». أتذكر هذا القاموس بكل تفاصيله، فهو كان يحتفل في كل فصل بحرف من حروف الأبجدية.
* لا يخلو جوابك من السخرية، خصوصاً حين نعود إلى عناوين كتابيك الجديدين ضمن سلسلتك الخاصة «القاموس العاطفي للبحر» و«القاموس العاطفي لبروتانيي».
– صحيح أن هذا القدر يؤثر بي ولكن هو حقيقة. ثم في ما بعد تعلّقت كثيراً بقراءة الشرائط المصوّرة وكنت أتعلق بقصصهم مثل قصة ذلك الشخص الذي كان يبني على الشواطئ بيوتاً خشبية من بقايا سفنه حين كانت تتعرّض للكسر، ولقد وجدت شبيهاً لهذه السلسلة في الأدب السكندينافي.
القصص
* هل لديك انطباع بأن الأدب الفرنسي فقد نوعاً ما الرغبة بقراءة القصص؟
– إنه سرّ لا يخفى على أحد: بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت الرواية ذات الطابع السردي لتقع في الفخ، ولم تعد مقبولة. حتى أن البعض اعتبر أن من يستمر في السرد الروائي سيرتطم في نهاية المطاف بالجدار. هذا مع أنه من أصعب الأمور أن تسرد قصة، أي أن تضع الكلمات وترصفها فوق أحداث تمتد من البداية إلى النهاية. ومن حسن حظنا اليوم في فرنسا أن كتّاب عرفوا كيف يلتقطون من جديد الحس السردي المرتبط بأسلوب مختلف في كل مرة، وكل هذا لأن الكمبيوتر قد ترك أثره أيضاً إذ تشعر وأنت تكتب بأن هذه الآلة تجعل الصوت ينخفض ويتغيّر!!
* وأنت شخصياً، أما زلت تكتب بالقلم؟
– ما زلت أكتب بيدي وفوق ورق أبيض من الدفاتر الصينية التي أعشق وهي من صنع أيدي نساء صينيات يعملن فوق ضفاف نهر الحب في أقدم مصنع للورق في الصين. هذه الحمولة تصل دائماً إلى فرنسا من الصين ضمن صناديق مكتوب عليها بالأحرف الصينية. وأكتب بأقلام معيّنة: ميتسوبيشي «يوني 0,9 ملم» وأسطّر بقلم «بيلوت» أحمر 0,5ملم […] هي احتفالية تبدو لي أحياناً وكأنها تجسيد لكآبتي التي أخدعها بهذه الأدوات.
قسوة الأب
* في كتابك «رجل حياتي» وصفت والدك كرجل غاية في القسوة، هل كان حقاً كذلك في الواقع؟
– كل شيء في الكتاب هو الحقيقة، خصوصاً حين مزّق أوراقي ومخطوطاتي حين كنت مراهقاً. واليوم لا أذكر من التقطها عن الأرض وأعاد ترتيبها، ربما أنا.. ولكن حتى في هذه اللحظات لم أحقد عليه. وبقيت على قناعتي بأنني سأستمر في الكتابة مثله، إذ كنت أعي تماماً قوة الكلمات على الآخرين. كنت أحب ضجيج الكلمات الذي تفعله حين ترتطم بشيء. كانت الكلمات تشكل كنوزاً بالنسبة لي. حتى حين أكتب جملة فاشلة أشعر بأن لها وقعها عليّ!
* في مراهقتك، كان لك شغف آخر وهو المراكب البحرية؟
– أجل، كنت أشعر في مراهقتي أنني حيوان بحري. وحتى اليوم لدي دائماً الشعور بأن المحيط ينتظرني.
* ما كان مركبك الأول؟
– امتلكت الكثير منها ثم صارت ملك عائلتي. ولكن المركب الأول اشتريته بمال جدّي. كنت في السابعة عشرة، وكان يمكن أن أضع المال في بناء ما أو في مصرف لكني اشتريت مركباً «مالورني» وهو اسم سيف سحري استخدمه الشاعر أبوليني في قصيدته «أغنية رجل غير محبوب»، وكان أيضاً اسم إحدى حبيباته. كان مركباً طوله 8,5 أمتار.
* وهل كنت تملك الكثير من المراكب؟
– ليس كثيراً، حوالى 16 مركباً، وقد اخترت واحداً لأقوم على متنه بجولة حول العالم، إلا أن حدثاً ما غيّر كل مسار حياتي حين التقيت فرانسواز فيرني.
النجاح الأول
* هذا الاسم الكبير في عالم النشر، وأهم ما قامت به أنها نشرت كتابك «العرس البربري» الذي سيكون نجاحك الأول والكبير..؟
– حين التقيت بها قرّرت عدم القيام بجولة حول العالم. وفوق تلك الجزيرة، على شاطئ البحر حيث ودّعت أمّي وأنا صغير التقيت فرانسواز. كان ذلك في نيسان 1978 وتغيّر مصيري..
* وحصلت على جائزة غونكور بهذا الكتاب الذي عرف شهرة كبيرة. وهذا الأمر سمح لك بشراء مركب ضخم جديد أليس كذلك؟
– أجل، ذهبت إلى الصالون البحري وحين اخترت المركب سألني البائع وكيف ستُسدد سعره، قلت له: «اتصل بإدارة غونكور ليحوّلوا لك المبلغ!».
* في السبعينات، عملت في قطاعات ومهن مختلفة، ما الذي تتذكّره من مهن تلك المرحلة؟
– عملت في مرحلة معيّنة من حياتي في تفريغ حمولات القطارات والبواخر وكنت بحاجة إلى أعمال صعبة لأن والدي كان قد لقّنني درساً وهو أن الحياة يجب أن تكون صعبة. ثم عملت في مصنع لمنتجات كيميائية وكانت الأمكنة ملوّثة بروائح تجعلك تتقيّأ كل ما في معدتك مرات عدة في اليوم الواحد! وكان الحل الذي تمليه علينا هيئة الإشراف على الصحة العالمية بأن نشرب الحليب الساخن نسبياً.. وكنت في المساء أتحوّل إلى أستاذ تنس فكنت أرتدي ثيابي البيضاء وأعطي دروساً لبعض السيدات اللواتي كان الضجر يملأ وقتهن وذلك قبل «الأيروبيك». ولكن كن يبتعدن وينفرن من وجودي بسبب الروائح الكيميائية التي كانت تفوح مني! كذلك أعطيت دروساً خصوصية في قيادة المراكب البحرية.. وذلك لأدفع ثمن مراكبي الخاصة. ثم عشت فترة طويلة داخل مركبي وكان في طور بنائه. كنت أبقى في الداخل وأكتب، ليس على ورق صيني كما يحدث اليوم بل كنت أستخدم الدفاتر القديمة من كليرفونتين…
* كذلك أعطيت أهمية كبرى في حياتك للحياة الزراعية، كذلك لعالم الحيوان. لذا نجد مقاطع هائلة في«القاموس العاطفي للبحر» كمثل ذلك المخصص لـ… برنار – ليرميت أو السلطعون الناسك!
– ثمّة معلم روسي كان يقول لي إنه على الكاتب أن يضخّم ما هو صغير وليس العكس أي أن يختزل ما هو ضخم. وهكذا حاولت أن أضخم صورة السلطعون الناسك فجعلت منه شخصية روائية. أنا أعشق هذا الحيوان البحري وهو ذكي أكثر مما يبدو عليه بكثير. وهو قادر حتى أن يغيّر جلده ليتواصل مع الآخرين من حوله. وأحب حين يحاول أن يؤلف فريقاً مع شقائق البحر.. أظن أن هذا النوع من الذكاء الحيواني لم نحسب له حسابات في عقولنا.
* هل تظن أن كتابة «القاموس العاطفي للبحر» هو عمل بيئي في إطار معيّن وهل أنت مناضل من أجل البيئة؟
– لا أتحمل أن تلصق بي كلمات أو صفات تتعلق بالمجموعات. أجل كلمة «نضال بيئي» كلمة كبيرة وتضخم عملي نوعاً ما. أنا وبشكل طبيعي أتفاعل مع كل عمل بيئي وإلا لما كتبت «القاموس العاطفي للبحر». ولكن هذه الكلمة تحمل صبغة سياسية تزعجني بشكل كبير. وأظن أنني لا أحب إطلاقاً أن تلتصق بي هذه الصفة!
تقديم وترجمة: كوليت مرشليان