الحريري و”الانتحار السياسي” بجرعات قليلة
في الإتصالات التي كانت جارية، من خلال قنوات “سرّية”، بين رئيس الجمهورية وحزب الله، غداة موقف عون الرافض لتوزير سنّة الثامن من آذار، تلقى حزب الله أخيراً رسائل إيجابية من عون، مفادها أنه يتفهّم مطلب الحزب، الموائم أصلاً لوجهة نظره في كيفية توزيع الحصص الحكومية، على قاعدة عدم احتكار أي حزب أو تيار أو “زعيم” لبيئته أو مذهبه. أي أن ما ينطبق على الدروز والمسيحيين يجب أن ينطبق على السنّة.
عبر البقاع الغربي
تلقف حزب الله الرسالة وفهم أن عون مستعد للتراجع عن موقفه السابق، ولكن في الوقت نفسه لا يريد أن يظهر بموقع المتراجع عن ما أعلنه في إطلالة تلفزيونية مباشرة صوتاً وصورة. ما يصيب مقام الرئاسة بضرر خصوصاً في “العهد القوي”.
هكذا، بدأ البحث عن مخرج، أو عن شخص قادر على تدوير موقف رئيس الجمهورية، والذهاب إلى إيجاد تسوية تخصّ سنّة “اللقاء التشاوري”. بداهة، هذا عنى إيكال المهمة إلى الوزير جبران باسيل، بعدما مهّد الطريق أمامه نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، من عين التينة، بمناشدته باسيل التدخل وحلّ العقدة. أوحى الفرزلي باستعداد عون للتراجع، وأعطى إنطباعاً جرى تسريبه فيما بعد، بأن المخرج سيكون في توزير شخصية سنية من البقاع الغربي، مقبولة من الحريري ومن اللقاء التشاوري. فبدأ باسيل تحرّكه وفق اقتراح توزير النائب عبد الرحيم مراد، الذي يعتبره مقبولاً من الحريري، ومن القوى المعارضة له، وباسيل يفضّله على النائبين فيصل كرامي وجهاد الصمد، بسبب قربهما من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
على هذا الأساس تفعّلت الإتصالات، وطلب النواب السنّة المستقلون موعداً مع رئيس الجمهورية. وبمجرّد تحديد الموعد وقبول اللقاء من قبل الرئيس، تأكد المنحى الإيجابي، خصوصاً وأن عون كان يرفض اعتبار هؤلاء كتلة نيابية واحدة. استقباله لهم على بوصفهم كتلة، أوحى للجميع وكأنه استجاب للأمر الواقع المفروض.
هذا المعطى كان المقدمة الضرورية لتحديد موعد بين باسيل والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. حدث اللقاء قبل ساعات من موقف سيطلقه الأخير، كان معلوماً أنه سيؤكد فيه وقوف حزب الله خلف أولئك النواب السنّة، ودعم مطلبهم.
المقايضة المستمرة
من تداعيات اللقاء مع نصر الله، والذي شدد فيه على وجوب تمثيل سنة 8 آذار، وعدم احتكار تيار المستقبل للتمثيل السنّي داخل الحكومة، تبديد كل الأجواء الباردة التي أشاع البعض أنها تحكم العلاقة حالياً بين عون والتيار الوطني الحر من جهة، وحزب الله من جهة أخرى.
خرج باسيل مطلقاً موقفه ليل الجمعة، معلناً بدء العمل على حلّ العقدة “السنية – الشيعية”. لم يخلُ موقفه من رسالة أساسية وجّهت إلى المستقبل والحريري شخصياً، بقوله:” الحل يبدأ بالعودة إلى المعايير وإلى مبدأ عدم احتكار الطوائف والمذاهب، والأخذ بالاعتبار الكتل الفعلية وطريقة تمثيلها”. كلام واضح وملتبس في آن، فيه رسالتان، الأولى إلى الحريري بعدم احتكاره السنّة. والثانية عبارة “الكتل الفعلية”، بما يعيدنا إلى موقف عون والتيار الوطني الحر، الذي لا يعتبر أن “سنّة 8 آذار” هم “كتلة فعلية”، بل هجينة، وجرى تركيبها لغاية واحدة: نيل مقعد وزاري.
بالأساس، عند اشتداد الأزمة، شعر عون أنه تسرّع حيال رفضه توزير “المعارضة” السنية. ولذا، جرى التواصل معه لحثّه على التراجع. طلب وقتاً للتفكير، وعاد بجواب أن ليس مناسباً لرئيس جمهورية أن يتراجع عن موقف أطلقه على الملأ، ولا يريد أن يتراجع عن التزام قدّمه على الهواء… أما وقد تمّ إيجاد المخرج من باب باسيل لا من بوابة قصر بعبدا، فإن العلاقة ستعود إلى متانتها بين عون وحزب الله.
على أي حال، وتلاقياً مع الأمر الواقع الجديد، قدّم الحريري مرة أخرى تنازلاً جديداً. بدأ بالتسريب عبر أجوائه بأنه “لم يعارض دخول السنّة المعارضين إلى الحكومة، ولكن ليس من حصته”، في إيحاء واضح لتراجعه عن رفض توقيع مرسوم حكومة تحوي ممثلاً عن هؤلاء. إذ أن أحد المخارج قد يكون إما بتمثيلهم من حصة حزب الله أو الرئيس. وهذا متروك الآن للمفاوضات التفصيلية الجارية، والتي وصفها باسيل بالعقدة “السنية – الشيعية”، وكأنه يوحي بإمكانية حصول مقايضة أو تبادل.
على هذا المنوال، يكون الحريري قد ربح فقط بعض اللافتات التي رُفعت في الشوارع من بيروت إلى طرابلس، دعماً ورفضاً لتوزير هؤلاء.
هذا لا يعني أن موعد ولادة الحكومة قد اقترب. هي لا تزال بعيدة ومرتبطة بحسابات خارجية، فيما يكون الحريري، على الأرجح، قد تُرك وحيداً في أرضِ هكذا سياسة موحشة، خصوصاً مع حزب الله الحاسم بقوله أن العقدة ليست لديه ولا لدى رئيس الجمهورية، إنما لدى رئيس الحكومة المكلّف، الذي وصف توزيرهم بـ”الإنتحار السياسي”.
وإذا كان تراجع عون هيناً، كما شهدنا، فإن تراجع الحريري بالغ الصعوبة.
منير الربيع/المدن