الحداثة من وجهة نظر التاريخ العالمي (*)
د. عبد السلام الشدادي جامعة محمد الخامس، الرباط
للحديث عن الحداثة كظاهرة عالمية يبدو واضحاً أنه من الضروري وضعها في إطارها التاريخي العالمي وتتبع مراحل تطورها. إلا أننا نتفاجأ عندما نلاحظ أن هذه المقاربة التي تبدو طبيعية وبديهيه بقيت مُهملة بل مغيّبة مدة عدة قرون، ولم تسترِع بعض الاهتمام النسبي إلا في العقود الأخيرة.
وبالفعل لقد ظهر منذ السبعينات من القرن العشرين العديد من النظريات والمقاربات الأكاديمية التي تدل على الشعور بضرورة اتخاذ وجهة نظر التاريخ العالمي لمعالجة الظواهر الجديدة ذات الحجم العالمي مثل مسألة نمو بلدان العالم الثالث، واندثار الإمبراطوريات الأوروبية، وأوضاع ما بعد الاستعمار، والتحديث، وتطور النظام الرأسمالي العالمي، والعولمة وغيرها. ومن بين هذه المقاربات والنظريات الجديدة، أخص بالذكر التاريخ العالمي (World history) أو التاريخ الإجمالي (Global history)، والتاريخ المرتبط (Histoire connectée)، ونظرية النظم العالمية (World System Theory)، والدراسات المتخصصة في أوضاع الطبقات المرؤوسة (subaltern Studies)، ونظرية التبعية (Dependance theory)، والدراسات حول ما بعد الاستعمار (post colonial Studies)، ونظريات ما بعد الحداثة (théories de la épost-modernit).
لقد أنجزت في هذا الإطار أعمال كثيرة في تاريخ العالم الحديث، أو في فترات أو مظاهر معينة من الحداثة، لكن إلى يومنا هذا لا يوجد، على الأقل على ما أعلم، بحث تركيبي حول تاريخ الحداثة ككل، منذ عهد بزوغها إلى تطوراتها الراهنة، آخداً في الاعتبار حقائق وواقع كل الشعوب والمجتمعات التي شاركت أو أشركت فيها. من المؤكد أن هذا عمل في غاية الصعوبة، بل ربما عمل من قبيل المستحيل. لكن لا يمكن أن نتغافل عن أهميته القصوى وعن ضرورة بذل مجهود مستمر من أجل إنجازه ولو جزئياً. وفي هذا الاتجاه، شرعت منذ مدة قصيرة في بحث أحاول فيه أن أعيد التفكير في تاريخ الحداثة في العالم العربي بوضعها في الإطار العالمي. وهذا ما جعلني أهتم بالحداثة إجمالاً كمدخل لهذا العمل.
كما ذكرت، لم أجد عملاً تركيبياً في الموضوع يلمّ بجميع أبعاد الحداثة ومكوناتها. لكن قرآتي الأولية ساعدتني على إبراز إشكالية مركّزة في البعد العالمي ألخصها في ثلاثة محاور: 1. ظروف بزوغ الحداثة، 2 – ظروف انتشارها والدور الذي لعبه فيها جميع المعنيون بالأمر على الصعيد العالمي، 3. الوضع الحالي والنقاشات حول الآفاق المستقبلية. وسوف أترك جانباً، إلا بالإشارة في بعض الأحيان، مضمون الحداثة في حدّ ذاته، لضيق الوقت، وهو متمثل أساساً كما يعرف الجميع في عدد من الثورات الكبرى، أهمها الثورة العلمية والتكنولوجية، والثورة الاجتماعية والسياسية، والثورة الاقتصادية.
المحوران الأول والثالث، أنجزت فيهما بحوث وأعمال متعددة، لكن المحور الثاني لم يحظَ في نظري بما يجب من العناية، وعلى الخصوص، بالنسبة إلى دور المعنيين غير الأوروبيين. لا يمكن أن أعالج هنا كل الإشكاليات والأحداث التي يتضمنها كل محور من هذه المحاور الثلاثة، وسأكتفي بعرض بعض النقط التي تبدو لي أساسية.
ظروف بزوغ الحداثة
في ما يخص المحور الأول، ظروف بزوغ الحداثة، سوف أتطرّق بإيجاز إلى نقطتين فقط: الوضع التاريخي الذي ظهرت فيه الحداثة، ومعناها كحادث على صعيد التاريخ العالمي.
ما هو الوضع التاريخي الذي بزغت فيه الحداثة؟ غالب الأجوبة تحجب البعد العالمي لظاهرة الحداثة، وتنسب ظهورها أساساً إلى التاريخ الأوروبي.
نجد أمثلة من هذا الموقف الذي يعبّر عن الفكرة أن الحداثة حادث داخلي أوروبي عند المفكرين الشهيرين كارل ماركس وماكس فيبر، كما نجده عند مؤرخين مثل فرناند بروديل (Fernand Braudel) وإريك هوبسبوم (Eric Hobsbawm) وكنيث بومرانز (Kenneth pomeranz)، والمؤرخ السوسيولوجي إيمانويل فاليرشتاين (lmmanuel wallerstein) والكثير المتعدد من غيرهم من المؤرخين والسوسيولوجيين والفلاسفة المشهورين عالمياً.
الأطروحة الماركسية القائلة بأن النظام الرأسمالي متأصل في أوروبا نجدها بعد ماركس عند السوسيولوجيين والمؤرخين إلى غاية فترة متأخرة. وفيبر الذي كان له تأثير كبير على المفكرين الأوروبيين وغيرهم إلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين جاء بأطروحة في الموضوع بقي تأثيرها ساري المفعول إلى اليوم: فكرة تفرد واستثنائية أوروبا (singularité et exceptionnalité) بالمقارنة مع باقي العالم، وعلى الخصوص الحضارات الصينية والهندية والعربية. لم يكن للحداثة أن تزدهر، حسب قوله، إلا في أوروبا، لأن تلك الناحية هي الوحيدة في العالم التي كان بالإمكان أن تبرز فيها خاصيتان أساسيتان للعالم الحديث: من جهة، الابتعاد عن الدين (distanciation par rapport à la religion)، أو ما سمّاه فك السحر عن العالم (désenchantement du monde)، وعقلنة الأفعال الاجتماعية (la rationalization des actions sociales) من جهه أخرى. وبهذا المعنى ربط في سوسيولوجيته الدينية، وبخاصة في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية (L’ethique protestante et l’esprit du capitalisme) بين الدين البروتستانتي ونمو الرأسمالية.
لم يلبث تساؤل فيبر عن أسباب النمو المتميّز لأوروبا بالمقارنة مع تأخر أو غياب التطور في المجالات الحضارية الأخرى أن يُعاد مراراً وتكراراً. أعطي مثالين فقط. كرّس المؤرخ فرناند بروديل (Fernand Braudel) دراسات عدة حول نشأة النظام الرأسمالي. وتدل المعطيات التي استعملها على أن الرأسمالية نمت انطلاقاً من مراكز متعددة، ولم يكن دائماً الدين المهيمن في هذه المراكز هو الدين البروتستانتي. وفي كتابه التوسع الأوروبي والرأسمالية (L’expansion de l’Europe et le capitalism)، تحدث بروديل عن توحيد العالم للمرة الأولى من طرف أوروبا من خلال سيادتها على الطرق البحرية، واضعاً السؤال التالي، لماذا أوروبا هي التي قامت بهذا الإنجاز، ولماذا لم يقم به غيرها من نواحي العالم؟ لماذا لم يقم به المسلمون أو الصينيون، وهم يمثلون الحضارتين الوحيدتين اللتين كانتا قادرتين على منافسة أوروبا في الانتصار الذي أحرزت عليه؟ أجاب بروديل على سؤاله قائلاً: أما الإسلام، فإن نجاحاته بعينها هي التي منعته من ذلك. كان الإسلام يملك سوقاً عالمياً ويسيطر على طرق القوافل، ولم يكن في حاجة إلى أن يبتعد عن عالمه. أما الصين فإنها كانت قد شيدت في القرن الخامس عشر أكبر أسطول في العالم، لكنها لأسباب تتعلق بالدفاع عن التخوم الشمالية ضد المغول، عدلت فجأة عن مشروعها في السيطرة على البحار. وكان استنتاج بروديل هو أن أوروبا فرضت نفسها بسبب «خمول الآخرين». فنَّد بروديل أطروحة فيبر حول العلاقة بين نمو الرأسمالية والدين البروتستانتي، لكنه لم يقدر أن يتخلى عن السؤال: لماذا أوروبا؟
المثال الثاني آخذه عند المؤرخ الأميركي كنيث بومرانتز، وهو من أبرز المختصين في الدراسات حول الصين. في كتابه التباعد الكبير (The Great Divergence)، بين أولاً أن الصين عرفت في القرن الثامن عشر في وادي الياكنتزي نمواً اقتصادياً.
واجتماعياً مماثلاً لنمو انجلترا، بل يمكن القول إن اقتصاد الصين لم يكن أقل ليبرالية من اقتصاد أوروبا، وكان يطابق نموذج أدم سميث أكثر من الاقتصاد الأوروبي. وهنا يبرز من جديد التساؤل الفيبيري: لماذا تطورت انجلترا صناعياً ولم تتطور الصين؟ وجواب بومرانتز هو أن التباعد الذي عرفته انجلترا لاحقاً يرجع الى قدرتها على استغلال فحم ترابها وقطن مستعمراتها لصناعتها. ويتوصل إذن الى نفس الاستنتاج الذي وصل إليه بروديل، أي التأكيد على استثنائية أوروبا، ولو كان تفسيرها بأسباب حادثة غير ضرورية.
كل هذا يبيّن إلى أن السؤال حول الوضع التاريخي عند ظهور الحداثة لم يُعالج إلى يومنا هذا إلا بكيفية محدودة. وكان اهتمام السوسيولوجيين والمؤرخين ينحصر في الدور الذي لعبته أوروبا، بصفتها أصل الحداثة الرئيسي وموجدَها الوحيد. إلا أن الأسئلة الهامة والأساسية من وجهة نظر التاريخ العالمي ليست هي: لماذا أنجزت أوروبا. بصفتها أصل الحداثة الرئيسي وموجدَها الوحيد. إلا أن الأسئلة الهامة والأساسية من وجهة نظر التاريخ العالمي ليست هي: «لماذا أنجزت أوروبا كذا وكذا، ولم ينجزه الآخرون؟» بل هي أسئلة يجب أن تنبثق عن اعتبار التاريخ الإنساني ككل. كأمثلة لهذه الأسئلة: «ما هي العناصر الحاسمة في تطور التاريخ العالمي التي ساعدت على ظهور الحداثة وانتشارها في العالم؟ كيف مهّد الإسلام الطريق لأوروبا، ونحن نعرف الآن أنه لم يزل في القرن السادس عشر أكثر الحضارات انتشاراً في العالم؟ كيف رسمت الصين معالم الطريق لنشأة العالم الحديث، ونحن نعرف أنها كانت تمثل الاقتصاد والتكنولوجيا الأكثر ازدهاراً في العالم إلى حدود القرن الثامن عشر؟ أو الهند ونحن نعرف أن صناعتها كانت تضاهي صناعة انجلترا إلى بداية الثورة الصناعية؟».
(عن مجلة «النهضة» الفكرية في المغرب)