
عيسى مخلوف في عمله الأخير ” باريس التي عشت ” :الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين



شوقي بزيع – الشرق الأوسط
لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة, بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد ” باريس التي عشت “, لا تعود الى جاذبية المدينة المعنية بالكتابة وسحرها الاستثنائي , أو الى اهتمامي المزمن بكل ما يمت لأدبي الرحلة والسيرة بصلة أو نسب فحسب , بل كان دافعي الأهم للقراءة هو قدرة صاحب ” رسالة الى الأختين ” العالية على أن يوائم في كتاباته بين عمق المعرفة وجماليات السرد وإشراقة اللغة والأسلوب .
وإذا كان مخلوف لا يتوانى عن تحويل العديد من إصداراته الى “معرض” شديد الثراء لثقافته الواسعة وعلاقاته المباشرة برموز الثقافة العالمية المعاصرة, إلا أن ما يبدو عند بعض الكتاب نوعاً من التبجح المعرفي, يتخذ عند عيسى طابعه التلقائي, ويبدو جزءاً لا يتجزأ من الموضوع المتناول بالمقاربة والبحث, بعيداً عن الإدعاء والاستعراض المتعسف للكتب المقروءة .
ولا بد من التنويه إضافة الى ما تقدم ,بأن تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة, إضافة الى شغفه المفرط بالحرية, هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي . فهو إذ جانب في كتابه السابق ” ضفاف أخرى ” الامتثال لمفاهيم السيرة الشخصية المألوفة, لم يتقيد في عمله الأخير بالمفهوم السائد لأدب الرحلات . فبدلاً من التنزه في جغرافيا العاصمة الفرنسية وأماكنها, آثر مخلوف القادم الى باريس من كاراكاس لمتابعة تحصيله العلمي , أن يحتفي بروح المدينة الكوزموبوليتية التي تحولت عبر الزمن الى مساحة نادرة للتنوير والتجريب الحداثي, والى منصة مفتوحة للاندماج الثقافي الكوني .
يتحدث مخلوف في مقدمته المسهبة لكتابه, عن أن تصوره لباريس قبل القدوم إليها, كان بالدرجة الأولى ذا منشأ ثقافي وإبداعي . وإذا كان ذلك التصور منقسماً بين الرومنسية والواقعية, فلأن قراءاته الأولى كانت هي الأخرى مزيجاً من كتابات فيكتور هيغو وموباسان ولامارتين وبلزاك وإميل زولا, وصولاً الى بودلير الذي انقلب على التقاليد السائدة في عصره . وقد جهد صاحب ” أزهار الشر ” في البحث عن صورة للمدينة تتعدى جمالها الهندسي الخلاب, لتتصل بالأبعاد الروحية والشهوانية للمدينة الغامضة , وصولاً الى مخاطبته لها بالقول ” لقد أعطيتِني طينكِ فصنعتُ منه الذهب “.
وإذ يشير المؤلف الى الدور الرائد الذي لعبه نابليون الثالث في تغيير ملامح باريس وإنارتها وشق طرقاتها ونزيينها بالحدائق , وتأهيلها بالمكتبات والمقاهي والمسارح وقاعات الأدب والفن,يشير في الوقت نفسه الى أن المدينة لم تكن في القرنين الفائتين صناعة فرنسية صرفة, بل هي ثمرة التفاعل الخلاق بين مبدعيها المحليين من أمثال رامبو ومالارميه وسارتر وأراغون وبونفوا وبارت وفوكو, وبين القادمين إليها من أربع رياح الأرض ليعثروا في كنفها على ما ينقصهم من نيران الشغف أوهواء الحرية . ومن بين هؤلاء كتّاب وفنانون عالميون من أمثال بورخيس وماركيز وبيكاسو ودالي, وعرب ولبنانيون من أمثال جبران وآسيا جبار وصليبا الدويهي وشفيق عبود والطاهر بن جلون وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان وفاروق مردم بك وغيرهم.
على أن احتفاء مخلوف بالمدينة التي كانت قبل عقود,الحاضنة الأمثل لمغامرة الكتابة والفن, والتي شكلت الملجأ والكنف والملاذ لكل الهاربين من وطأة التخلف والجهل والاستبداد في بلدانهم الأم , لم يمنعه من الإقرار بتقهقرها المأساوي إزاء ما سماه إريك أورسينا , عضو الأكاديمية الفرنسية, غول الرأسمالية المفترس, الذي عمل بنهم مرَضي على افتراس كل إبداع خلاق وتفريغه من مضمونه , وإخضاعه لسوق الشراء والبيع ومنطق العرض والطلب . وقد عبر بيار بورديو من جهته عن هذه الظاهرة بالقول ” إن المنتج الثقافي أصبح يُعامل اليوم بوصفه سلعة وأداة لهو وتسلية, فيما بات أصحاب المال والنفوذ هم رعاة الثقافة وأسيادها وراسمي القواعد الجديدة للاجتماع البشري وقوانينه”.
وفي تلك البورتريهات الملتقطة للكتاب الباريسيين, مقيمين ووافدين, ثمة ما يبدأ من لحظة اللقاء الختامي ثم يعود على طريقة ” الفلاش باك” الى لحظة البدايات, كما في الفصل المتعلق بإيتيل عدنان, الشاعرة والرسامة اللبنانية المعروفة . فالمؤلف يستهل الفصل بالحديث عن اللقاء الأخير الذي جمعه بإيتيل قائلاً ” كانت إيتيل جالسة في قاعة الاستقبال , حيث نلتقي عادة, وكانت متعبة ومتألمة. لقد توقفت عن تناول الدواء الذي سبّب لها الدوار . قلت لها “سنتصل بالطبيب, ونطلب منه أن يصف لك دواء آخر”. وكان ردها حاسماً “ما من أدوية للشيخوخة “. إلا أنه ما يلبث, إثر عرض مكثف لأبرز محطات حياتها ووجوه تميزها الابداعي , أن يقول ” لا أدري متى التقينا, إيتيل وأنا, أول مرة . فبعض اللقاءات سابق لأوان حدوثه, وموجود حتى قبل أن يوجد ” .
ومن بين ما يلفتنا في الكتاب حرص صاحبه على المواءمة بين فكرة المثقف المتخصص التي لازمت الحداثة في بعض حقبها الأخيرة, وفكرة المثقف الموسوعي الذي لا تحول هويته الشعرية الأساسية, دون اهتمامه بشؤون الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ , وتفاعله النقدي العميق مع فنون الشعر والرواية والموسيقى وفنون التشكيل . على أن المعرفة هنا لا تظل أسيرة التنظير الممل واللغة الباردة, بل ثمة على الدوام تيار من العاطفة الدافئة والحماس المكتوم , يسري في شرايين الكتابة, بعيداً عن الإنشاء الرخو والمبالغة الميلودرامية .
أما الأمر الآخر اللافت, فيتعلق بحرص مخلوف على تقديم الثقافة والابداع بوصفهما جسور التواصل الأهم بين طرفي العالم اللذين باعدت بينهما الضغائن السياسية وتضارب المصالح والعصبيات العرقية والدينية المختلفة . فحيث تطلع الكثير من المبدعين المشرقيين والعرب الى الغرب, باعتباره موئل الحرية الأرحب , والكنف الأمثل لصقل التجارب الأدبية والفنية , كان كتاب وفنانون غربيون يتطلعون بالمقابل الى الشرق, بوصفه الظهير الأكثر صلابة لنداءات الروح, والينبوع الأولي للبراءة الملهِمة .
وفيما يتقاسم المؤلف مع الكتاب والفنانين الذين تناولهم في كتابه, الكثير من شؤون الابداع وشجونه, وصولاً الى الأسئلة الممضة المتعلقة بالحياة والفن والزمن والموت , يحرص على أن يقدم لقارئه أعمق ما لدى محاوريه من الكنوز المعرفية التي يملكونها, عبر برقيات ولقىً وحدوس إنسانية شديدة التكثيف, بحيث نقرأ لإيف بونفوا قوله ” إن القرن الحادي والعشرين هو على الأرجح القرن الذي سيشهد على اختناق الشعر تحت الأنقاض التي تغطي العالم “. ونقرأ لبورخيس, الذي تمكن مخلوف أن يلتقيه لدقائق معدودة في باريس, قوله : ” أعمى أنا ولا أعرف شيئاً ولكنني أتوقع أدَقّ المسالك”, ولجان جينيه ” الجرح وحده أصل الجمال “. كما نقرأ لشفيق عبود, الفنان التشكيلي اللبناني :” الهواة يلعبون,يتسلّون,يركضون وراء الواجهات . وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل”.
وإذا لم يكن بالأمر السهل التوقف عند المحطات المختلفة للكتاب , الذي شاءه مخلوف أن يأخذ شكل المقاربات النقدية والشخصية لمن احتضنه وإياهم كنف المدينة العريقة , فإن ما يلفتنا في الكتاب, الذي يقع بين اليوميات والسيرة الشخصية وأدب الرحلة, هو إبعاد السرد عن البرودة التقعر والنمذجة الجامدة, ومهره بقدر غير قليل من الحب, وبلمسة إنسانية متأتية عن علاقة المؤلف المباشرة بمن كتب عنهم . وسواء أخذت تلك العلاقة شكل الصداقة الحميمة أو اللقاء الصحفي البحت , فثمة في الحالين ما يعطي الكتابة عند صاحب “عزلة الذهب” سمات الصور والرسوم, التي تحاول تأبيد اللحظات العابرة ومنعها من الإمَحاء .
والواقع أن الشعور الذي يمنحه كتاب”باريس التي عشت” لقارئه, هو مزيج من الانتشاء بلغة مخلوف التي تشع نضارة وعذوبة, وبين لسعة الأسى الشجي المتأتية عن كون معظم لقاءات المؤلف مع المبدعين المعنيين, كانت تتم في المراحل الأخيرة من أعمارهم, أو في اللحظات القاسية التي تسبق الموت. ففي حين كان مرض السرطان قد فتك بأجساد البعض, كما في حالة إدوار سعيد وسعدالله ونوس وأمجد ناصر,كان البعض الآخر منهكاً ومهيضاً تحت مطرقة الشيخوخة, كما في حالة خورخي بورخيس وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان .
وثمة, أخيراً , ما يُخرج الكتاب من الخانة المتعلقة بأدب الرحلة التقليدي, ليجعله تقصياً لمسالك الذات الانسانية , شبيهاً بما قصده خليل حاوي في قصيدته المعروفة “رحلة السندباد الثامنة”. كما يبدو من بعض وجوهه نوعاً من أدب “الرحيل”, والرثاء التأبيني المضمر لمن رحل من المبدعين, وضرباً من ضروب التلفت بالقلب نحو نوعين من السحر متلازمين : سحر المدينة المنقضي وسحر الحياة الآفل .