النازحون السوريون والخوف من السياسة اللبنانية
هناك قضيتان متشابهتان لفظياً. قضية النازحين السوريين في لبنان، وقضية لبنانيين في النزوح السوري. الأولى، سيرة إنسانية لمئات آلاف البشر الذين هربوا من البطش والقتل على يد نظام بشار الأسد والميليشيات المتعاونة معه والحملة التدميرية الجوية الروسية، فلجأوا إلى لبنان. أما الثانية، فهي سيرة سياسية بالغة القدم، تستأنف خطاباً ديماغوجياً بائساً، جديده التزاوج بين لغة “الممانعة” المفعمة بالرياء، ولغة “اليمين” العنصري الموغل في الخبث.
وواقع النزوح السوري، في كل الأحوال، ثقيل الوطء على أهله الذين يشعرون بمذلة التشرد والعوز والاقتلاع، كما على المجتمع المضيف بموارده الشحيحة أصلاً. وإزاء هذه الحقيقة، ترتبت مسؤولية كبيرة ومكلفة وشاقة لرعاية النازحين كما لمساعدة المجتمعات والبيئات المضيفة. وتتوزع تلك المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي أولاً وعلى السلطات اللبنانية ثانياً. عدا عن المسؤولية الأساسية التي يتحملها المسبب بتلك المأساة أصلاً، أي النظام السوري وحلفاؤه (حزب الله وأمثاله..).
وفي المبدأ، ورفضاً لواقع تحويل السوريين إلى مجتمع نازحين، أو لواقع تحويل لبنان إلى أرض مخيمات، يتقدم “حق العودة” بوصفه بنداً سياسياً أولاً، أو بنداً قانونياً غير قابل للطعن أو المساومة. فكما عشنا منذ العام 1948 على قناعة راسخة بحق الفلسطيني في العودة إلى دياره، بالترادف مع “حق تقرير المصير”، فإن تلك القناعة تسري في أي مكان وزمان وعلى مطلق شعب أو جماعة وطنية.
وحسب كل الاستطلاعات، التي أجرتها المؤسسات الدولية، فإن 95 في المئة من النازحين السوريين في لبنان أبدوا تمسكهم ورغبتهم بالعودة إلى بلادهم، من فور تحقق شروط العودة، البالغة الوضوح: أن لا تكون طريق العودة مؤدية لا إلى الهلاك والموت ولا إلى أقبية التعذيب ولا للتنكيل اليومي.
وببساطة تامة، يتفق اللبنانيون والنازحون على ضرورة تحقيق العودة. وهو واحد من العناوين الكبيرة التي أعلنتها الحكومة اللبنانية، وفق سياسة معلنة لا تتعارض مع الالتزامات الدولية والعربية، ولا مع حقوق النازحين الإنسانية، ولا مع المصلحة الوطنية العليا.
لكن كما حال الكثير من القضايا، تحولت قضية النازحين السوريين إلى عنوان جديد، لتغليف الصراعات اللبنانية – اللبنانية، الطائفية و”الأيديولوجية” (اصطلاحاً نسبياً)، فينسب أهل “الممانعة” من اللبنانيين أصل المأساة السورية هذه إلى مؤامرة كونية إمبريالية حتماً، وإلى مخططات غربية صهيونية لضرب المقاومة ومحورها، فيتطوعون إلى الدفاع عن “سوريا الأسد” ويمالئون نظامها في ابتزاز المجتمع الدولي والدولة اللبنانية والدول العربية، في قضية النازحين، علاوة عن ابتزاز النازحين أنفسهم. فيما رهط آخر من اللبنانيين، من أهل “اليمين” العنصري، النابش لنعرات “التوطين” وخواف الديموغرافيا الطائفية، والمعتاش على إحلال الغرائز في السياسة، يتعمد اللهج بكلمة “النازحين” صبحاً ومساءً، فقط لمناكفة الخصوم المحليين أو للمزايدة أو لتوسيع شعبية قائمة على محض أضاليل، وعلى مبدأ الكذب اليومي وتكراره إلى حد تحوله “حقيقة” معممة.
على هذا النحو، بات لدينا قضيتين: قضية النازحين السوريين في لبنان، وقضية لبنانيين في النزوح السوري. ورغم خطورة وجسامة ومأسوية الأولى، فإن الثانية مرشحة، إن استمرت على منوالها، أن تصير عامل تفجير لا للحكومة وحدها، بل في المجتمع اللبناني. إذ منها ستتناسل مجدداً كل القضايا الخلافية ذات السمة المصيرية، لما تضمره في سؤال هوية البلد واستقلاله وانتمائه، وفي سؤال علاقات الجماعات اللبنانية ببعضها البعض. وهو تماماً ما يذكرنا بقضية اللبنانيين ذات مرة مع الوجود الفلسطيني في لبنان، لينقسموا على خطأين: خطأ إنكار الحقوق الفلسطينية وخطأ استباحة لبنان وحقوقه.
هكذا، شيئاً فشيئاً، بدأت قضية النازحين تنقلب إلى مادة “سياسوية”، على النمط اللبناني، من النوع الذي لا يبعث لا على الاحترام ولا التقدير.
أظن أن أهم عمل سياسي (من النوع المحترم)، هو إزاحة قضية النازحين السوريين عن “السياسة اللبنانية”. وأظن، أن ما فعله وليد جنبلاط ورفاقه وأصدقائه، يوم الإثنين 18 آذار ببيروت، عبر تدبير مؤتمر “لبنان والنازحون من سوريا” (الحقوق والهواجس وديبلوماسية العودة)، الذي ساهم فيه أساتذة في الحقوق والعلوم السياسية وباحثون من مراكز دراسات ومؤسسات دولية ومدنية ومن جامعتي اليسوعية والأميركية، إضافة إلى “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين”، هو مقاربة أولى عقلانية وعملانية وديبلوماسية، تشكل اقتراحاً لمقاربات شبيهة.. إنقاذاً للنازحين وقضيتهم، وللبنان وطمأنينته. وهذا، على تواضعه، إن لم يفد كثيراً، يظل سياسياً أفضل من الأذى الكبير الذي يرتكبه أولئك الذين لا يقدمون سوى الكراهية والخوف.. والتخويف، للسوريين وللبنانيين في آن واحد.
فعلة جنبلاط، وإن كانت “حركة” سياسية لا تخلو من فطنة، لكنها
تشير عن حق إلى خوفه الشديد على السلم الأهلي، من هذا السجال المندلع حول
النازحين، والمخاطر المصيرية المترتبة عليه.. وأضألها عودة النظام السوري
إلى لبنان لا العودة النازح السوري إلى سوريا.
وعلى سبيل الإفادة، ننشر هنا توصيات المؤتمر:
أولاً:
ضرورة إقرار خطة وطنية شاملة، في شأن عودة النازحين السوريين إلى بلادهم،
تشكل الأساس السياسي والعملي لنشاط الحكومة والوزارات والهيئات المعنية
بهذا الشأن.
ثانياً: إعادة إمساك الحكومة اللبنانية بهذا الأمر، ووقف أشكال التداخل وضياع المرجعية المسؤولة عن ملف النزوح.
ثالثاً: التأكيد
على دور الأمم المتحدة والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، في رعاية
العودة، والنظر إلى مسألة الضمانات ومعايير الأمان المتعلقة بالعودة مع
الجهات المعنية في سوريا.
رابعاً: إن الأساس في عودة آمنة وكريمة
للنازحين، يكمن في إجراءات حقيقية تُتّخذ في سوريا، وتدفع إلى تحفيز وتشجيع
عودتهم، وإزالة كل العوائق من أمامها. وهنا يكمن دور المبادرة الروسية في
تأمين الضمانات المطلوبة والضغط لتأمين شروط العودة.
خامساً: إن تأمين عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، تستدعي بالدرجة الأولى حلاً سياسياً عادلاً في سوريا، يقوم على ضمانات دولية، وإعلان صريح من السلطات السورية عن ترحيبها وتسهيلها وضمانها لعودة النازحين. وفي ظل غياب الحل السياسي، يبقى دور الأمم المتحدة بصفتها الجهة الموثوقة والراعية والمولجة التواصل مع السلطات السورية، أو مع الجانب الروسي بعد إعلانه المبادرة، لتنظيم عودة اللاجئين، هو الأساس في أي مقاربة لهذا الأمر.
سادساً: إن دور الديبلوماسية اللبنانية يجب أن يرتكز على الضغط باتجاه الحل السياسي العادل في سوريا، وتطبيق القرارات الدولية في كل المنصات والمنتديات الدولية، التي تناقش هذا الأمر، إضافة إلى الضغط من أجل إدراج عودة النازحين كشرط أساسي للاستقرار السياسي والاجتماعي في سوريا، وبينها وبين دول الجوار.
سابعاً: إن لبنان الذي تعرض إلى جولات دامية من الحروب
الداخلية، وتعرض شعبه إلى موجات هجرة ونزوح، لا يمكن أن يجرّد نفسه من
البعد الإنساني لهذا الملف. لذلك، يتوجب إبعاد هذا الأمر عن الحسابات
الطائفية أو الفئوية الضيقة والتعاطي معه بروح المسؤولية الوطنية، التي
تُوازن بين الأبعاد الإنسانية والسيادية والديبلوماسية.
ثامناً:
أهمية إشراف وزارة الداخلية والبلديات على أي تدابير، قد تتخذها بعض
البلديات، للتضييق على النازحين، بغية الدفع باتجاه العودة القسرية بما
يُناقض التزامات لبنان الإنسانية والدولية.
تاسعاً: إعتماد خطاب سياسي إعلامي تواصلي هادئ وهادف، يلتزم مبادئ السياسة العامة، ويبتعد عن الشعبوية والاستنفارات والاستقطابات، بما يضمن تفادي أي توترات بين النازحين والمجتمع المضيف أو بين اللبنانيين أنفسهم.
عاشراً: التأكيد على أن مصلحة لبنان الاستراتيجية، تتمثل في حل سياسي حقيقي وشامل في سوريا، يعالج آثار الحرب وتداعياتها، ويؤمّن عودة كل اللاجئين من حيث لجأوا، بما يحافظ على هوية السوريين التعددية ونسيجهم المجتمعي.
يوسف بزي / المدن