الفن الأحمر.. وتوقفه على وجه القائد المفدى
على جدار من جدران معرض “أحمر، فن ويوتوبيا في بلاد السوفيات” (غران پاليه، باريس)، علقت اللوحة المونوكرومية الشهيرة لألكسندر رودشينكو، التي تحمل اللون الأحمر. تصلح هذه اللوحة، التي وصفها تارابوكين بأنها “اللوحة الاخيرة”، بأن تكون مدخلاً إلى مجمل الأعمال التي تسبقها وتليها. ليس بسبب لونها فحسب، بل، وأيضاً، لأنها شكلت علامة على بداية مرحلة جديدة، بدءاً من نهاية العقد الأول من القرن العشرين، في تاريخ الفن، ومفادها، هجرة الرسم إلى المسرح والديزاين والعمارة. وهذا، لأنها هي الوسائط التي بمقدورها تغيير المجتمع، وبناء آخره، الاشتراكي.
لكن الرسم فعلياً لم يمت، إذ إنه سرعان ما ولد بشكل مختلف، أو بالأحرى سرعان ما وضعه مزاولوه، الذين، وفي غالبيتهم كانوا رسامين تقليديين، في خدمة الثورة البلشفية، وفي خدمة عالمها المقبل. فها هي “جميعة فناني روسيا الثورية”، تأخذ على عاتقها تقديم اللحظات العظيمة من الثورة، وذلك، بطريقة فنو-وثائقية. وفي الوقت نفسه، أطلق عدد من الرسامين، الذين انتسبوا إلى الانتاجوية، مجموعة ost، التي سعت إلى مواكبة التبدل الاجتماعي، لتوفر له برسمها مرآة تعكسه، وبالفعل نفسه، تحض عليه. في هذه المرآة، غالباً ما يظهر الثوار في هيئة الأبطال الذين يشكلون قدوة لأغيارهم.
بديهية الإشارة إلى أن الفن في العشرينات السوفياتية انطوى على البروباغندا. بل كان، في جانب كبير منه، صنعة “أجيتوتروبية”، تبغي العمل مباشرة على إرادة جمهورها. على أن هذه الصنعة استندت إلى تقنية بعينها، وهي الفوتومونتاج. فبالتوازي مع نشأتها الأميركية، واستخدامها الألماني، كان الفنانون السوفيات قد حولوا هذه التقنية حتى تستطيع إبداء، وبحسب ناتاليا ميلوفزوروفا، التطور الديالكتيكي للموضوعة الأساس، أي واقعية العالم. فتجمع فتاتها، وتكثفها في إطار ووقت واحد. وبالتالي، يشتد أثرها على ملتقيها، الذي يجد فيها فضاءً ديناميكياً.
ربما، تؤلف الديناميكية، وقبلها، الميكانيكيا، كلمة من الكلمات المفتاحية للمعرض، وهذا، تحت وطأة التيار الإنتاجوي، الذي دعا إلى ضرورة تحول الفن إلى فن مفيد ونافع. إذ عليه أن يكون مهنة وليس وَحيَاً، وعندما ينتج جماليته، فلتكُن مرادفة لديناميكية الواقع، كما تكون مرادفة لبناء حياة ملائمة للمواطن السوفياتي.
من هنا، وفي فصل من فصوله، كان الفن الأحمر تصميمياً. ففلاديمير تاتلين، صنع، وبالتعاون مع روغوجين، كرسياً، قال عنه انه من الأغراض الملائمة لطريقة العيش الجديدة. على أن الفن اياه لم يصنع أغراضه فقط، بل راح يرفع من قيمة كل الصناعات السوفياتية، ويبشر بما ستؤدي إليه، من التراكتور الذي ظهر في لوحة لروبليف، إلى كل اللوحات التي مدحت غزو السماء، لا سيما بالمنطاد.
وفي السياق نفسه، الذي يتعلق بالديناميكيا، كان الفن السوفياتي على صلة متينة بالرياضة، خصوصاً ألعاب القوى. فملأت الأجساد رسومه لتكون ضخمة، ومتماسكة، ومتحركة في الماء، وعلى الأرض، وفي الهواء. أي لتكون، وبكلمة واحدة، حية.
طبعاً، في تلك الفترة، الثلاثينات، كان الأمر الرسمي ان يكون الفن فرحاً، أو “مُعدياً بفرحه” على قول مكسيم غوركي، بحيث يتوجب عليه أن يقدم للطبقة البروليتارية ما هو مشرق في واقعها، وهو نفسه الذي يعد بالشيوعية الآتية. بالتالي، كان رسم الأجساد الرياضية، ومعها، الصناعات، والعمال الأبطال، بمثابة استكمال لسياسة نقل عدوى الفرح إلى كل المواطنين، التي شرع ستالين فيها قائلاً: “الحياة صارت أفضل أيها الرفاق، الحياة صارت فرحة اكثر، وعندما نعيشها بفرح، يتقدم العمل”.
فحين رسمه غيراسيموف فوق جثة جدانوف، أحاطه بأحمر يبعث على غبطة متفاقمة للغاية. هذه هي اللوحة الأخيرة في المعرض الذي يتوقف عندها، مشيراً إلى أن الفن السوفياتي، وحين أخضعه النظام “الواقعي الاشتراكي” لمعايير تمثيل القائد المفدى، وصحبه، بطرق معينة، انطلق في تجمده، واضمحلاله.
روجيه العوطة / المدن