عمال لبنان: من البيك إلى الزعيم برعاية حافظ الأسد
ليس سراً القول بأن الأول من أيار قبل الحرب الأهلية، التي
انفجرت في العام 1975، لا يشبه الأول من أيار في مرحلة توقّف القتال، أي ما
بعد العام 1990. وما بين المرحلتين، كان مخاض ولادة آلية السيطرة على
العمال ونقاباتهم، مع تبلور شكل النظام السياسي الذي سيحكم عبره زعماء
الميليشيات، بدعم من نظام حافظ الأسد، الذي ضَبَط إيقاع كل شيء في لبنان،
من أكبر القرارات السياسية إلى أصغر تفاصيل التظاهرات المطلبية.
العمال ضد الإقطاع
قبل
الحرب الأهلية، كان أولاد وأحفاد العائلات الإقطاعية التقليدية، يسيطرون
على الأراضي الزراعية، وعلى ما كان متوفراً من مصانع، وأيضاً على الحركة
التجارية. وأحكَمَت تلك العائلات سيطرتها على المشهد الاقتصادي، من خلال
تحالفها وتداخل مصالحها، والذي لم يخرقه الخلاف السياسي، مهما بلغت حدّته.
في تلك المرحلة، كان الانقسام بين أصحاب العمل والعمال، واضح
المعالم، ويرتكز من الناحية الاقتصادية على مبدأ “من يملك ومن لا يملك”.
وكان المبدأ الاقتصادي مدخلاً للسيطرة السياسية. لكن ذلك الانقسام كان يعطي
العمال هويتهم، ويحدد لهم مسار الاعتراض، والمطالبة بتحسين شروط العمل أو
تغيير واقع ما، تغييراً جذرياً. أما أطر انتزاع الحقوق، فكانت النقابات
العمالية، المستقلة تماماً عن أرباب العمل، الذين لم يكتشفوا في ذلك الوقت
فكرة تدمير النقابات من الداخل. فالعمل النقابي كان في أوجّه، وخبرته تُبنى
مباشرة على الأرض، وليس في المكاتب المغلقة. فضلاً عن تجذّر الانقسام
الطبقي الواضح المعالم، بما يحمله من خطوط حمر اجتماعية، تمنع الإقطاعي من
التواصل المباشر مع العمال والفقراء، الأمر الذي أخّر لعقود عملية خلق
نقابات عمالية تمثّل السلطة. فكل ما كان شائعاً قبل ذلك، هو زرع الإقطاع
وأصحاب المصالح لمخبرين ينقلون إليهم أخبار العمال وتحركاتهم.
طوائف لا نقابات
أنتَجَت
الحرب الأهلية نوعاً جديداً من السلطة السياسية والاقتصادية، يجمع بين
سلطة وسطوة الإقطاع المتمثّل بـ”البيك” وبين براغماتية “الرئيس”، فكانت صفة
الزعيم كتوليفة محايدة وأكثر قبولاً. وساعد الفرز الطائفي والمذهبي الذي
ارتكزت عليه الحرب الأهلية، في تأليه صورة الزعيم وجعله مخلّصاً ومدافعاً
عن حقوق الطائفة.
مَحَت الحرب الفوارق الطبقية لصالح تطييف الصراع ومذهبته. والخوف من الطائفة الأخرى وطلب حماية الزعيم، جعلت الأخير صاحب قرار الحرب والسلم، والعارف بأحوال ومطالب وأحزان وأفراح أهل الطائفة. أما الظلم الآتي من الزعيم، فلم يعد سوى سوء استغلال للسلطة من قِبَل حاشية الزعيم، وحاشى للزعيم أن يأتي بمُنكرٍ أو ظلم.
أكّدت الحرب الفرز الطائفي. والنقابات التي كانت فاعلة قبل
الحرب، توزّع نقابيوها على أحزاب الطوائف، فصارت النقابة فرعاً حزبياً
وليست حركة عمالية جامعة.
الكلمة للبعث السوري
عرف الرئيس
السوري السابق حافظ الأسد أن اللعب على وتر التعددية الطائفية والحزبية في
لبنان، هو مفتاحٌ لإحكام سيطرته على البلاد. فدارَ شراع الحرب الأهلية وفق
ما يشتهي، بتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وخرج من الحرب المنتصر
الوحيد فيها، بتصفيق أميركي حار، وبرضى إسرائيلي مستمر، مع استمرار تخلّي
الأسد عن الجولان.
إدارة الأسد للسلم في لبنان كانت سهلة جداً. فحزب البعث في أعلى الهرم، وأدواته للسيطرة هي الأحزاب التي أعلنت ولاءها للأسد. فيما تم استبعاد الحزب الشيوعي اللبناني، الأب الروحي للنقابات والحركات العمالية في لبنان، عن الساحة السياسية كلياً.
وعليه، افتتحت أحزاب السلطة نقاباتها وروابطها العمالية، وأمسَكت بقرار الموظفين في القطاعين العام والخاص، بعد تغيير هوية العمال، من موظفين في الأرض والمعامل إلى موظفين في الإدارات العامة والقوى العسكرية والمدارس والجامعات وموظفين في المصارف والمؤسسات الخاصة المملوكة لزعماء البلاد، بصورة مباشرة وغير مباشرة.
بفعل السياسة الجديدة، اختفى صوت النقابات. أما المغرد خارج
السرب، من شيوعيين وبقايا التنظيمات اليسارية، فكان مصيره الملاحقة والسجن
بتهم مختلفة وجاهزة. وبات للنقابات المروّضة رئيس موظّف، يعيّنه زعيم
الحزب، برضى الحاكم السوري في عنجر، ويصفّق له أعضاء النقابة. واللافت أن
المبادىء الفكرية لأحزاب السلطة الجديدة، لا تؤمن بالعمل النقابي ولا تعترف
بالتقسيم الطبقي للمجتمع، فتلك الأحزاب هي توليفة تجمع بين الدين والأمّة
السورية والاشتراكية العربية التي حاولت تعريب الاشتراكية والشيوعية
الأممية، ومع ذلك امتلكت نقابات ووعدت العمال والموظفين بتحسين شروط عملهم،
وبرفع الحد الأدنى للأجور وتحسين نوعية التعليم والتغطية الصحية… وما
إلى ذلك، تحت سلطة البعث الذي كان يُقدّم أسوأ نموذج سياسي واقتصادي
وأخلاقي في سوريا.
إستقالة أحزاب اليَسار
لاحَقَت السلطة
الشيوعيين واليساريين بقرار من الحاكم السوري. أحكمت القبضة على الاتحاد
العمالي العام، الممثّل الأبرز للعمال في لبنان، وأعطت نقاباتها الهجينة
حقنة السبات العميق، ونسجت علاقات وطيدة مع بعض القياديين الشيوعيين
واليساريين المتسلّقين نحو المناصب القيادية، فقضت السلطة بذلك على الخطاب
اليساري، الموازي بمعناه وتأثيراته لخطاب العمال ومطالبهم. ومن انعكاسات
خطوة السلطة هذه، أن ضربت مصداقية الخطاب اليساري الذي يجهد لجعل الصراع في
المجتمع بين مستغِلين ومستَغلين، بين ظالم ومظلوم، وليس بين طوائف ومذاهب.
ولا تتحمّل السلطة التي أقصت القيادات الفكرية والنقابية للأحزاب اليسارية، إعتقالاً وقتلاً، وحدها مسؤولية الواقع الجديد، إذ ان الأحزاب اليسارية والشيوعية استقالت من دورها وانصرفت عميقاً في صراعاتها الداخلية، فتقاتلت سياسياً وفكرياً، وصولاً الى انقسامها وتشعّبها إلى تيارات تدعم كل منها طرفاً من أطراف السلطة. وتحوّل حديث تلك الأحزاب عن النقابات والتحرر العمالي إلى شعارات، وتحولت تحركاتها في الشارع إلى حالات اعتراض فلكلورية، لا تخدش جدار السلطة، ولم يبقَ من حركتها الفكرية التي تقرأ وتحلل واقع العمال، سوى بعض المصطلحات المستعارة من بيانات مرحلة الستينيات، والمطعّمة بعبارات الثورات الشيوعية واليسارية حول العالم، لكن من دون وضع برنامج عمل فعلي واضح.
المدن