كاريزمية الحريري “صاحب ضحكة وقلب طيب” لكن أين مستشاروه؟
في إحدى جلسات المجلس النيابي، كان الرئيس رفيق الحريري يقف
في بهو المجلس محاطاً بثلاثة من عتاة المقرّبين إليه وأبرز المستشارين،
بعضهم من كان نائباً والآخر وزيراً. خلال تلك الوقفة، يومئ الحريري الأب
إلى أحد نواب كتلته، الآتي من بعيد، طالباً منه الإنضمام إلى الحلقة. لحظة
وصوله، توجه إليه الحريري بالقول ضاحكاً: “هل يعقل أنا وبكلّ كرمي، محاط
بهؤلاء المستشارين البخلاء؟” فيجيبه النائب قائلاً: “دولة الرئيس هل جاء
هؤلاء المستشارون لوحدهم أم أُسقطوا بالمظلة؟ أم أنك أنت من اخترتهم؟”،
طبعاً تلقى الحريري الأب الإجابة برحابة صدر وضحكة ملأت محياه.
تجربة معين المرعبي!
يروي
أحد الشهود على هذه الواقعة تفاصيلها، لدى سؤالنا إياه عن أحوال بيت الوسط
الآن والفريق المحيط بالرئيس سعد الحريري، والخطط المرسومة سياسياً
واقتصادياً ومالياً واجتماعياً وتنظيمياً وشعبياً.. للمرحلة المقبلة، ولا
سيما مرحلة ما بعد إقرار الموازنة. فتكفي إجابته أو روايته هذه للتدليل على
واقع المستشارين في بيت الوسط أو السراي الحكومي، وسط اعتراضات كثيرة تدور
من قبل مقرّبين من الحريري وتيار المستقبل، ووسط تساؤلات كثيرة حول ترهّل
الأوضاع وازدياد الأثقال على كتفي الحريري، من دون الإقدام على أي مواجهة،
بل تغليب رؤية التوافق والمساومة بشكل دائم.
بعيد إعلان قبول الطعن بنيابة ديما جمالي عن المقعد السنّي في
طرابلس، طرح بعض المقربين من الحريري، وبينهم نواب سابقون، ترشيح النائب
السابق مصطفى علوش بدلاً من جمالي، إجابة الحريري كانت واضحة ولا لبس فيها:
“لا أريد تكرار تجربة معين المرعبي مجدداً”. ما يعني أن الحريري لا يريد
من يقول له لا، أو لا يوافق على كل ما يطلبه، أو حتى كل من هو على استعداد
للدخول في مواجهة مع القوى السياسية الأخرى، لا سيما التي بينها وبين جمهور
المستقبل (لا قيادته)، خلافات وعدم انسجام.
بغض السياسة والسجال
وهذا
دليل على أن الحريري نفسه، لا يستطيع أن يتحمّل أكثر من ذلك في السياسة،
لا يريد المواجهات ولا الاشتباكات. جلّ ما يريده تمرير الأمور بأقل الخسائر
الممكنة، والحفاظ على ما تبقى من مكتسبات. لكنه ينسى في المقابل، سعي
خصومه أو حلفائه إلى مراكمة المزيد من المكتسبات على حسابه بالذات، وصولاً
إلى حدّ قضم نفوذه وحصصه. لكنه، بكل بساطة، لا يريد أي مواجهة ولا أي تحدٍ.
وهو قالها في احتفال 14 شباط الأخير، أن السياسة والخلافات السياسي لا
يؤديان إلى أي نتيجة. من الواضح أن الرجل لا يهتم بالسياسة كسلطة ومنازعة،
بل يقلبها إلى مجرد تنظيم لعمل إداري واقتصادي واجتماعي. وقد تكون هذه
النظرة صائبة وممتازة، في دولة الرعاية الإجتماعية مثلاً، في إحدى الدول
الاسكندنافية، وليس في لبنان، الواقع على فالق دائم التوتر الإقليمي
والتناحر السياسي والمذهبي.
تغيّرت الأوضاع جذرياً في تيار المستقبل، حتّى توجهات العمل
فيه تغيّرت، وصولاً إلى حدّ تقديس الزعيم، وتأليه الولاء له، بمواجهة أي
انتقاد أو اعتراض. وهذه رأس لائحة الدلائل على تغيّر الحريري، الذي لطالما
كان يفضّل النقاش والاعتراض، وحتّى الانتقاد في السنوات العشر الأولى من
تجربته. ربما وجد في ذلك هدراً وخسارة، وربما وجد نفسه أمام بعض الطامحين
أو المتسلقين، أو حتّى “المورّطين” له والمتهورين سياسياً، فدفعوه إلى
صدامات لا نتيجة منها، وصولاً إلى إبعاده عن أرضه وسلطته. وهذا التحول نحو
نبذ النقاش، بلغ إلى حدّ بعيد حال التشبه بالأحزاب والقوى الأخرى التي كان
الحريري يعارضها منهجياً. لقد أصبح انتقاده انتهاكاً لحرمة مقدّسة. صحيح
أنه هو بشخصه يتعالى عن ذلك، لكن ربما بات يوكل مهمة تحريم نقاشه إلى من
يحبّون أن يسمّوا أنفسهم جيش “المستقبل” الإلكتروني، الذين لن يتوانوا عن
الخروج كأسراب لمهاجمة المنتقدين أو المعترضين، مستخدمين لغة التخوين
للآخرين، والتقديس للزعيم.
“بالمال لا بأصحابه”
كان لدى
الحريري الأب، حوالى 50 مستشاراً في مختلف المجالات، وكان يلتقي معظمهم
يومياً، ولم يكن لديه أي مشكلة بأعمار المستشارين، كالوزير باسل فليحان
مثلاً. معظمهم كان يتمتع بقوة الشخصية، والجرأة على إبداء الرأي والاعتراض.
استمرّ الحريري الإبن على هذا النهج لسنوات عديدة، لكنه لم يستطع أن يكمل
المسير في مرحلة ما بعد التسوية الرئاسية، وصولاً إلى الانتخابات النيابية،
فوجد نفسه مضطراً للتحرر من أثقال سياسية، كإبعاد صقور المواجهة
والاعتراض، وإستحضار “صقور” من نوع آخر، يستميتون في القول “نعم” بلا أي
جدال أو مناقشة، أو حتى لا يتمتعون بأي قدرة على النقاش أو الاعتراض أو
التفكير المستقل أو رسم السياسات وتفاصيلها. ولم يعد معروفاً عدد
المستشارين المحيطين بالحريري اليوم، والمقصود بالمستشارين ليس أصحاب الصفة
الرسمية، بل أيضاً المقربين من الحلقة اليومية.
على الرغم من تغيّر الأحوال، يبقى الحريري صاحب نقاط قوة مهما بلغ استنزافها. أولها، رمزيته كزعيم للسنّة وابن رفيق الحريري. وثانيها، عدم وجود أي بديل له. وثالثها، مرونته وقربه من الناس. أما رابعها والأهم، فهي شخصيته التي يصفها الجميع، بأنها محببة وكاريزمية، باعتباره “صاحب ضحكة وقلب طيب”. فعند مواجهة أي أزمة يلقى التعاطف الشعبي والسياسي المطلوب. لكنه في المقابل لا يحب المماحكة أو الدخول في اشتباكات وإشكالات. كل ما يُحَلُّ بالتفاهم بالنسبة إليه، يكون الخيار الذي لا مثيل له. وهذه لها علاقة بطبيعة منشأه والسوسيولوجيا التي تربّى عليها، وربما أبرز من يطبّقها وفق قاعدة، “بالمال لا بأصحابه” بمعنى أن ما يفتدى بالمال والصرف فليكن، بشرط أن لا يؤثر على الأعصاب ووجع الرأس. وهذه الطبائع تنسحب على الممارسة السياسية، التي لا يريد الرجل فيها أي مواجهة أو إشتباك.
قبل السير بخيار الرئيس ميشال عون، اضطر بعض نوابه إلى مجاراة خياره بترشيح سليمان فرنجية للرئاسة، وكان همّهم الوحيد على الرغم من عدم اقتناعهم بذلك هو النزول عند رغبته وقناعته، لعدم رؤيته بحال أضعف من ذلك. ثم كرروا السلوك ذاته عند تبدل خياره. هكذا تظهر بطالة هؤلاء المستشارين والمقربين. بطالة قد لا تضر رئيس تيار حزبي.. لكنها بالغة الخطورة لرئيس حكومة مسؤول عن مصير بلد.
منير الربيع / المدن