الساروت… نشيد الوضوح
ليس أصدق من خبر الموت سوى رؤية مجلس العزاء، حين ينقلب الخبر يقيناً، ويتشارك الجميع حزنهم فيكبر، هذا ما حدث صبيحة اليوم حين غدت جدران “فايسبوك” وبقية مواقع التواصل خيمة عزاء في رمز الثورة السورية الأكثر شعبية، فعادت أغاني عبد الباسط الساروت في يوم رحيله، لتذكر الجميع بالوطن الجنة، وبحلم الشهادة، وآمال كل مواطن عربي في التحرر منذ مطلع 2011.
لعل الأغنية ذات الأصل العراقي “جنة يا وطنا” من أبرز ما غناه الساروت، بعدما غيّر مفرداتها وحمل أسماء مدن سورية عبر كلماته إلى قلب كل سوري. قبلها، كانت هذه المدن عبارة عن غياهب في عقول سكان المدن الكبرى كدمشق وحلب، الأمر الذي عمد إليه النظام عبر عقود، بتحطيمه لهويات المدن السورية الأخرى، وتهميشه لدورها في البناء الكبير الذي صار يسمى سوريا الأسد، وهو اسم عنيف فاقد لكل ما يؤلفه مع قلوب السوريين، بعدما انتُزعت بلادهم وحيواتهم ودُمغت باسم الأسد، ومع هذه الأغنية باتت حمص مدينة جديدة في وعي الجميع، حرة، كريمة، تنتصر لأخواتها الأخريات الجميلات، ولم تعد الرقة والقامشلي مدناً سورية أقرب إلى العراق في وعي السوريين، بل باتت مدنهم التي يفخرون بها، ويشتاقون لزيارتها حتى لو لم يكونوا قد عرفوها من قبل. في تلك السنة، جزم الكثير من السوريين أنهم لو استُفتوا على نشيد وطني جديد للبلاد، لكانت أغنية الساروت ستفوز من دون منازع، خصوصاً أن حماة الديار هم من هدم الديار وسفك دم سكانها.
في كل منعطف أخذته الثورة السورية، وفي كل حالة توهان خلقتها السياسات الدولية، لو تتبعت الساروت، ستسمع صوت أكثر الناس المتضررين من العصابة الحاكمة، الأبسط، البعيد من الكلام المنمق والدبلوماسي، الحالم الممتلئ حباً. فعلى عتبة الموت، إما أن يكون الوطن جنة، أو هو اجتياز العتبة أطهاراً، والفوز بجنة تنتظر من مات في سبيل كرامته. هذه المعادلة البسيطة التي يؤمن بها جل الشعب السوري، النصر أو الشهادة، المعادلة سهلة النطق، والتي لا يصمد أمامها سوى الأبطال الحقيقيين، وخلال الإصرار على أي منهما تبدأ الأسئلة الكبرى بالظهور، من نحن؟ لم نبذل كل هذا؟ وفي سبيل مَن؟ ولمواجهة ازدحام الأسئلة ليس هناك أبسط من جواب يتألف من عشر كلمات، تجدهم في أغنية الساروت “حلم الشهادة”: فاقد هويتي يابا، ألقاها فين؟ ولمستا بثورة يابا، ضد الظالمين.
بأكثر الصيغ المنطوقة ركاكة، وتعباً، يجمع الساروت أكثر من ثلاث لهجات ليكمل سطرين في أغنيته، لكن ما حمله السطران من معنى يلخص حياة السوريين منذ استلام حافظ الأسد للسلطة في البلاد، من دون تنظير وكما يحبّ السوريون، كلام من القلب، ويصل إلى القلب قبل أن يعمل التفكير عمله فيه، ليس هنالك ما يؤلم أكثر من ضياع الهوية، وليس أجمل من ثورة تعيدها لك، فتشعر أنها خُلقت من جديد، خلقت في زمان ومكان تلاحقك فيه كل أشكال الموت فقط لأنك حلمت بما هو أجمل من قاتلك.
ومع طول مدة الصراع وازدياد همجيته، ودخول معظم دول الكوكب كضباع تتسابق على وجبتها، شتت الآراء، وضغط العجز ليخبر عن لا جدوى الأمل، فضاعت البوصلات وتفرقت وبقي الساروت على جبهته، مختفياً عن الإعلام، يدرك الفجوة بين من يسمعه في بيته، ومن يعمل معه على خطوط النار. وكأن الساروت أدرك أن ظهوره الإعلامي سيفضح حجم الكارثة على الجبهات، ويزيد الشرخ مزقا إضافية، حيث المليشيات المتقاتلة باتت أقذر من بعضها البعض على اختلاف الانتماء، والولاء، وحجم التمويل، والتوجه فرأيناه يعود من تركيا بعدما دخلها هرباً من محاكم نصبها له آلهة الأرض، الفصائل الإسلامية. وليس خلافها مع الساروت سوى أنه يفضح ارتهانهم لأوامر الممول في تجميد الجبهات وفتحها تبعاً لمصالحهم، بينما يستمر الساروت في رغبته الدائمة والمستمرة بقتال النظام وحلفائه.
وفي الموجة الجديدة من الربيع العربي، كما أسماها الإعلام، وأثناء اختفاء الساروت عن المشهد، وتشتت السوريين في أصقاع الأرض، وترددهم في دعم الجزائر والسودان، بسبب ما اكتسبته نفوسهم من عُقد بعد الانكسارات المتوالية، وخوفهم على مصير مشابه للأخوة في البلدين، ظهر صوت الساروت مع طلوع العيد الذي غادرنا فيه، ليشد على أيدي الجزائريين والسودانيين ويخبرهم أننا معهم، وأننا هنا منذ أعوام ومازلنا نقاوم، فيعيد الأمل لكل السوريين، وأخوتهم العرب. جتنا الجزاير ثايرة.. بها الحراير سايرة الخرطوم صاحت حاضرة.. ونقوم إيد بإيد.
إعجاب الساروت بحرائر الجزائر، رغم أن لثورتهم وجوهاً عديدة كان يستطيع الغناء لها، كان خير نفي لكل ما اعتراه من تهم بالتشدد، ألصقها به بعض العلمانيين، ليجتمعوا على كراهية الرجل مع “جبهة النصرة”، في أول مرة يجتمعون على شيء. لكن يوم يموت الساروت سيدرك السوريون جميعاً، في الداخل والشتات، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، والخارجة عن سيطرته، علمانيين وإسلاميين، أنه ما من وجه أنظف للبلاد، من شاب بذل كل ما يستطيع، وتحدى كل المنعطفات، وتحمّل الكثير من التهم لأنه كان مضطراً لأخذ القرارات على الأرض، إلا أنه كان وسيبقى عبد الباسط الرمز، وستبقى أغاني الثائر الواضح، أعلى من أي إنتاج موسيقي يحاول أن يحاكي واقع السوريين، ويلخص ما مروا به.
ياسر أبو شقرة / المدن