جبران باسيل يحيي نظرية العرق المتفوق..
يبدو أن لا حد لشطط جبران باسيل. اليوم، يبدو وكأنه أعلن
العودة إلى زمن “توحيد البندقية المسيحية”، زمن التعبئة في الحرب المفتوحة
بلا أي أفق، ولا أي رادع، ضد اللاجئين السوريين (والفلسطينيين). نابشاً
أكثر الأفكار عفونة عرقية وعنصرية، ومعتمداً أشد النسخ الشعبوية سوءاً
ورداءة. السياسة التي يطبّقها رئيس التيار الوطني الحرّ، جبران باسيل، صارت
تتجاوز السياسة إلى خطر إشعال نيران لا يمكن إطفاءها بسهولة.
لا شمعون ولا بشير
يريد
الرجل الاستحواذ على كل المشهد بأي ثمن، واختصار كل القضايا بشخصه. يسعى
بحمية خطرة إلى تكريس نفسه زعيماً للمسيحيين ولو عبر تأليبهم على بعضهم
البعض وتأليب الجماعات الأخرى عليهم. كيس الأحقاد الذي يخبئه ضخم ولا شك.
يريد أن يكون “القائد” الأوحد، وهو صاحب الكتلتين النيابية والوزارية
الأكبر، ورئيس أكبر حزب مسيحي. لكن هذا لا يكفيه. لطالما كرّر في مجالسه
أنه سيُنسي المسيحيين بشير الجميل، وكميل شمعون. وشمعون أحد دهاة عالم
السياسة اللبنانية، والرئيس اللبناني الوحيد الذي استخدم صلاحياته الواسعة
كما هو منصوص عليها بالدستور، من دون أي مراعاة للميثاق الوطني أو
للتوازنات الداخلية، وحقق شعبية هائلة. أما بشير الجميل، فهو الذي مثّل
الجيل الشاب والصاعد، صاحب العنفوان الثائر لتغيير المعادلات بالقوة.
إلى حد ما، يلعب باسيل وفق أساليب الرجلين. يتحالف مع الجميع
ويخاصم الجميع في آن واحد. يتذكر كميل شمعون في المعارك التي يفتحها
لاستعادة الصلاحيات، وحصر كل الملفات بيده وبيد رئيس الجمهورية. ويستعيد
خطابات بشير الجميل تجاه الفلسطينيين، موجهاً إياها نحو اللاجئين السوريين
والفلسطينيين معاً. ولذلك يحسن بمصادرة خطاب الموالاة والمعارضة معاً،
فيحشر مختلف القوى المسيحية الأخرى، بحيث لا تعود قادرة إلا على مجاراته،
وإن لم تفعل ستكون منبوذة من قبل مجتمعها.
سياسة النعرات
هكذا
نجح باسيل في محاصرة القوات اللبنانية في بيئتها، ليس في ملفات إدارية
وسياسية واقتصادية، بل في ملف حساس ويطال أعماق سيكولوجية الجماهير، ويخاطب
مجتمعاً يستشعر الخطر والتهديد دوماً من “الذوبان في محيط إسلامي، أو
عربي”. عطّل باسيل أي مفاعيل لخطاب القوات اللبنانية إلى جمهورها، خصوصاً
في ما يتعلق بملف اللاجئين السوريين، فما حصل في أحد مخيمات دير الأحمر
مثال ساطع. انتهى الإشكال بين اللاجئين والأهالي بتهجير سكان المخيم وهدمه.
وما حدث هنا، سيسري على مخيمات عديدة بطرق مختلفة، لأن ثمة قراراً متخذاً
بشن حملة تخويف اللاجئين، و”تطهير” المناطق اللبنانية منهم.
بطبيعة
الحال، وجود هذا العدد الهائل من اللاجئين في بلد مكتظ أصلاً، ويحمل ذاكرة
مليئة بالندوب في تجاربه مع الدولة السورية ومع اللاجئين الفلسطينيين،
سيؤدي إلى إشكالات وصدامات وإثارة نعرات مختلفة. لكن سياسة باسيل ليست
البحث عن “الحل” بل عن النعرات نفسها، كمادة تعبئة وكذريعة لإعلان حرب
وجودية مبررة بالتخويف اليومي، وهو الذي يشجع على استشعارها عند أبناء
المجتمعات المناهضة للاجئين. سياسته هي إعادة إنتاج حرب قديمة جديدة،
عاشتها هذه المجتمعات سابقاً مع اللاجئ الفلسطيني، وتكرر تجربتها اليوم مع
اللاجئ السوري (وتضمر أيضاً حرباً على اللبنانيين المسلمين أولاً). علة
وجود باسيل وصعوده هي أن تكون السياسة هكذا. وأسوأ ما قد يواجهه أن تنتهي
أزمة اللجوء بحل مناسب، لأنه سيخسر “موضوعه”، يخسر استثماره في هذه
المأساة، مالياً وسياسياً وشعبوياً، باعتبارها العنوان الوحيد الذي يراكم
عليه رصيده السياسي والشعبي.
جينات وأعراق
قبل أيام،
اعلن وزير الخارجية جبران باسيل بأن اللاجئين سيغادرون إما إلى سوريا أو
إلى أوروبا. ورغم يقينه أن كلامه تهويل غير واقعي، وشغب لفظي، إلا أنه يعرف
أن هكذا خطاب يجد جمهوراً محلياً لا يزال تترسب في دواخله “ثقافة” يمينية
(وطائفية) تنتمي إلى ما قبل 1975، وفي الوقت نفسه يعرف باسيل أنه هنا يمارس
إبتزاز المجتمع الدولي. وعلاوة على ذلك، فقد فرض باسيل هذا الملف كبند أول
في السياسة اليومية في البلد. ما يعني، بكل الأحوال أن القضية تعود
بالمنافع على مثيريها، شعبوياً في البداية، وإحراجاً للخصوم تالياً.
فالمجتمع الأهلي الذي انتفض على وجود اللاجئين في مخيم دير الأحمر، مؤيد
للقوات اللبنانية، هي التي لديها مواقف واضحة إلى جانب الثورة السورية
ومؤيدة لخيارات الشعب السوري، وحتى مقاربة القوات لملف اللاجئين مختلفة
جذرياً عن مقاربة التيار. لكن ما نجح باسيل في إرسائه هو إظهار الفوارق بين
القيادة القواتية وقاعدتها الشعبية، فظهر أن الجمهور الثائر على اللاجئين
على ما يبدو، غير متسق مع مواقف سمير جعجع حول كيفية معالجة هذا الملف.
وبذلك نجح باسيل في مصادرة خطاب الجماعة المسيحية.
لا يمكن إخراج ملف اللاجئين وطريقة التعاطي معهم من قبل الوزير جبران باسيل، عن كل الملفات السياسية الأخرى في البلد، فقد أصبح هذا العنوان من العناوين اليومية المحددة لسياسة التيار الوطني الحرّ، من أجل اختزان كلّ شيء. ويكاد يكون هذا العنوان الأول لإمساك باسيل بكل الملفات، ليقول للجميع: “الأمر لي، في السياسة الخارجية، وفي السياسة الداخلية”.
الطور الجديد والأخطر هو ما قاله باسيل: “لقد كرّسنا مفهوماً لانتمائنا اللبناني هو فوق أي انتماء آخر، وقلنا إنه جينيّ وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معاً، لتحملنا وتأقلمنا معاً، لمرونتنا وصلابتنا معاً، ولقدرتنا على الدمج والاندماج معاً من جهة وعلى رفض النزوح واللجوء معاً من جهة أخرى”. هذا ما يحيلنا مباشرة إلى ترهات الفاشية القومية. وإذا هيمنت هكذا ترهات، فمعركة اللاجئين لم تعد معضلة إنسانية ولا مشكلة اجتماعية اقتصادية ولا قضية سياسية.. هي حرب عرقية إذاً. ومن يتحدث بالأعراق وبالجينات يسهل عليه العنف: “دفاعاً عن نقاء العرق.. دفاعاً عن الوجود”. والتواريخ تخبرنا أن هذا كان أقصر الطرق نحو الفظاعات.
المروع هنا، أن باسيل نفسه ومريديه لديهم ذاكرة معيوشة للماضي الذي لم ينصرم، والذي شهد ما أودت إليه هكذا سياسات من كوارث ومجازر، لا بحق “الأعراق” والطوائف الأخرى وحسب، بل بحق تلك “الجينات اللبنانية” بالذات، إلى حد خطر الانقراض.
إذا كان من واجب هنا، فعلى المسيحيين اللبنانيين أولاً وفي المقدمة، وقبل غيرهم، أن يتصدوا لهذا الرجل
المدن