لقاء استعادة التوازن… وجنبلاط خط أحمر
لا ينضب أوكسيجين الرئيس نبيه برّي. كثر يحاولون خنقه سياسياً، لكنهم في النهاية يجدون أنفسهم لديه، بحاجته. يلجأون إلى “مطبخه”، فهو يعمل على إعداد وصفات، لا تضعف أي فريق، ولا تسمح للآخر بالاستقواء، خصوصاً بعد إبرام التسوية الرئاسية.
مرجعية حزب الله
يعلم الرئيس نبيه برّي، أن الدور الذي يأخذه وزير الخارجية جبران باسيل، ليس بناء على قوته أو فطنته. يستمد الرجل قوته من ظروف عائلية، ومن الثقة التي يمنحه إياها رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى استناده إلى تحالف أساسي واستراتيجي مع حزب الله، ويحظى بقبول واسع في الشارع المسيحي. أهمية الدور الذي يلعبه باسيل، تتجلى في إرساء دور حزب الله كمرجعية عليا لشؤون البلد ووجهته. أي تكريسه حكماً ومقرراً، وفق أسلوب التلاعب الذي انتهجته “الوصاية” السورية أيام وجودها في لبنان، حين كانت تعمل على زرع الشقاق أو إيقاع الخلاف بين القوى السياسية، التي تضطر للذهاب إلى عنجر، لتقديم شكواها وخطب ودها.
اليوم يتم تضخّيم دور باسيل إلى حدّ بعيد، على نحو يتم توصيفه
أنه حاكم البلاد، يصول ويجول وفق ما يشتهي. لعلّ المنزعجين منه يلجأون إلى
الحزب للتقدم بشكواهم. هذا الدور المضخم لباسيل، يخدم حزب الله، الذي لا
توجه إليه السهام السياسية، ولا يأتي أحد على ذكر السلاح غير الشرعي، بل
يتلهى الجميع بردّ الصفعات الموجهة عبر باسيل، من دون أن يكون الحزب
بالواجهة. يجيد باسيل أداء وظيفته هذه، ويعمل على المراكمة لصالحه
بجريرتها. وفيما يلجأ البعض بشكل مباشر إلى الحزب لتقديم شكواه، يلجأ آخرون
إلى الرئيس نبيه برّي، الذي يجيد أيضاً لعب دور “الإطفائي”، والذي يمثّل
عقل حزب الله المفاوض في الداخل، وفي العلاقات بين مختلف القوى، على غرار
دوره الذي أوكله إليه الحزب في التفاوض مع ديفيد ساترفيلد في عملية ترسيم
الحدود.
ثبات عين التينة
إتقان برّي معروف ومشهود، هو من
الحريصين على الثوابت وحفظها، يمثّل ملجأ ومرجعاً للجميع، وكل ما يقدم
عليه، لا يخرج عن رؤية الحزب، ولا يتعارض مع مصلحته. كل الطموحات التي برزت
لدى بعض القوى بعد التسوية الرئاسية (ومن بينهم باسيل تحديداً)، في محاولة
لتحجيم نبيه برّي باءت بالفشل. كان الرجل يعلم ما هو آت، وقال بعيد انتخاب
ميشال عون رئيساً للجمهورية “الآن، حان وقت الجهاد الأكبر”. كان يعرف رئيس
المجلس ما يرمي إليه، والصعاب التي تنتظره. وفيما طمح التيار الوطني الحرّ
إلى احتكار لعبة توزيع المغانم والمكاسب، خصوصاً في مرحلة تشكيل أولى
حكومات العهد، وجد نفسه محشوراً في زاوية برّي الذي تولى التفاوض باسم قوى 8
آذار، ونجح برّي في تحقيق ما يريد. أيقن التيار الوطني الحرّ أن معركته مع
برّي ستكون خاسرة، لكنه لم يتوان عن محاولات استهداف دوره، كما ظهر في
الفيديو المسرب للوزير جبران باسيل: “نبيه برّي البلطجي”. فما كان منه إلا
أن عاد ولجأ إلى عين التينة مسترضياً، لعلمه أن لا قراريُتخذ من دون رضى
برّي. وفيما يتكئ باسيل على قوة حزب الله، يستند برّي أيضاً على قوة
الطائفة والحزب. والأخير يبتغي الحفاظ على توازنات الضعف إزائه لدى الجميع.
صحيح أن حزب الله “تمدد” على حساب برّي في تمثيله الشعبي، بفعل القانون الانتخابي النسبي، لكن أوراق برّي لا تنفد، وحبره لا يجف. يلعب دور التهدئة، وإن كان على معارضة مع بعض حلفائه، من دون الخروج على الستاتيكو الذي يرسمه حزب الله.
برزت إشكالية التوازن، في الصدام الأخير الذي وقع بين حزب
الله والحزب التقدمي الإشتراكي. فعندما يشذّ جنبلاط عن قاعدة الستاتيكو
ويهاجم حزب الله بطريقة أو بأخرى، يعمل برّي على تصويب البوصلة، كي يحصر
النزاع ويوجهه نحو رئيس الجمهورية ووزير الخارجية. مثالاً على ذلك، تدخل
برّي بعد تصريح جنبلاط حول مزارع شبعا، طالباً منه الإقلاع عن هذه
التصريحات والتزام الهدوء. جنبلاط أيضاً يعرف متى يقدم ومتى يحجم. يكوّن مع
برّي ثنائياً قلّ مثيله.
قواعد اللعبة
يعلم جنبلاط أنه
عندما تشتد محاصرته، أن هكذا فعل لا يتم من دون رغبة حزب الله. لذا، يلجأ
إلى توجيه سهامه تجاه الحزب مباشرة. وهذا الأمر تحديداً لا يحتمله الحزب،
ويفضّل أن يبقى بمنأى عن الاستهداف السياسي. وهنا يتدخل الرئيس نبيه بري،
كما حدث في مواقف عديدة استهدفت حزب الله. وهذا ما يمكن استخلاصه من خلال
العشاء الذي يجمع بري بجنبلاط والحريري.
وحتى هذه الاجتماعات لن تؤدي إلى إضعاف باسيل أو تطويقه، طالما أن حزب الله يستفيد منه إلى هذه الدرجة. إنما تأتي في سياق الحفاظ على “الستاتيكو” القائم، وعلى قواعد اللعبة الواضحة وشروطها بعدم خروج أي طرف منكسراً. فباسيل سيبقى على قوته طالما الظروف تفرض ذلك، ويسدي الخدمات الاستراتيجية للحزب، ويتلقى بصدره كل الغضب بدلاً منه.. مقابل أن يكون من الممنوع كسر جنبلاط. منطق التوازن سيبقى مستمراً. لكن بالتأكيد، مبدأ تطويع باسيل أو تطويقه لن ينجح بمثل هكذا اجتماعات فقط، خصوصاً أن لكل طرف حساباته ومصالحه وارتباطاته. إضعاف باسيل يبدأ من تجريده من أسلحته التي يستخدمها لتعزيز شعبيته وعصبية جمهوره، ومواجهة نشاطه وحيويته بنشاط مضاد وحيوية معاكسة ومضاعفة، والمبادرة إلى اقتحام ساحته، كما هو يتسلل إلى كل الساحات.
منير الربيع / المدن