حين انقض باسيل على الحريري وحده جنبلاط بقي إلى جانبه… والاميركي يتفرج
دفع الرئيس سعد الحريري ثمن تردي الأوضاع السياسية والمعيشية
أكثر من مرّة. وهو يتحمّل بالطبع جزءاً أساسياً من المسؤولية عن ترديها.
لكن خطأه الأساسي الذي يتقدم على أخطائه كلها، هو أنه كلما تحالف مع طرف
سياسي ما، يتمسك به على حساب تحالفاته مع سواه من الأطراف.
وحدة الحريري
هكذا يصبح الحريري قابلاً للتطويق بكل سهولة. أو سرعان ما تأتي اللحظة التي يجد نفسه فيها وحيداً.
ومنذ
ما قبل انتفاضة 17 تشرين 2019، بدأ الحريري يجد نفسه وحيداً، داخلياً
وخارجياً. الطرف الداخلي الذي تحالف معه منذ سنوات ثلاث، أظهر جشعاً لا
مثيل له، وتمادى في محاصرته وتطويقه، وانتزاع صلاحياته، لا السياسية فحسب،
بل في الموازنة والتعيينات وسواهما.
ووحدة سعد الحريري كانت خارجية أيضاً. فحلفاؤه الخارجيون تخلوا عنه قبل سنوات، وانسدت أمامه الآفاق. لذا اختار التسوية الرئاسية الداخلية. لكنه أخطأ في إدارتها، فدفع الثمن مرتين: مرة في تخليه عن حلفائه القدامى وتخليهم عنه، ومرة ثانية في الطعنات الأليمة التي سددها إليه حلفاؤه الجدد.
تخلى عن وليد جنبلاط وسمير جعجع، لصالح التيار العوني، فتخليا عنه. وما أن انقض عليه جبران باسيل، حتى حاول الرجوع إلى حلفائه. جنبلاط ظل إلى جانبه، بينما فضل جعجع الانفراد في موقفه، وخرج على المنطق القائل إنه دوماً في جيب الحريري.
مأخذ حلفاء الحريري عليه أنه لا يواجه. أو أن دماثته تدفعه
إلى التعاطي بإيجابية مع كل من يلتقيه. وعندما يقدم على اتخاذ موقف واقعي
متماهياً مع الطرف الأقوى، يرى الآخرون أنه أخل باتفاقه معهم. وهذا حصل
كثيراً بينه وبين وليد جنبلاط وسمير جعجع، لصالح جبران باسيل.
ألاعيب الضعفاء القلقين
تكرّر
خطأ الحريري هذا مرتين: عندما أرسل الوزير السابق غطاس خوري إلى معراب،
عشية الاستشارات النيابية، ليعقد هو لقاءً سرياً مع رئيس الجمهورية. وعشية
الاستشارات النيابية، حينما تشاور مع جنبلاط، وأوحى إليه بأنه سيصوت لنواف
سلام، كان قد التقى “المرشح” حسان دياب سرّاً، ومن دون إبلاغ جنبلاط بالأمر
أو التنسيق معه. وأخيراً اختار عدم تسمية كتلة المستقبل أي مرشح. وربما
هذا ما دفع جنبلاط إلى إطلاق تغريدته القاسية عن الحريري، بعد تكليف دياب،
واعتباره أنه التقاه سراً تفاهماً على بعض الأمور.
طبعاً، تراجع الحريري عن تسمية نواف سلام بعد لقائه المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل، الذي حذّره من هذه الخطوة. تفكيره أنه وفي ظل عدم وجود حلفاء له في الخارج، فكر بألا يحرق المراكب مع القوى في الداخل كلها، وفضل التعامل بواقعية.
كان لقاؤه بدياب إيجابياً نسبياً، مقارنة مع لقائه الرئيس نجيب ميقاتي بعد إسقاط حكومته. آنذاك أبدى الحريري استعداده لتسهيل مهمة ميقاتي، من دون مشاركته في حكومته. واعتبر الحريري أن الفرصة سانحة لإثبات قوته: بعدما أعلن أنه عامل تسهيل لا تعطيل، وجه لمناصريه الغاضبين دعوات للخروج من الشارع، متعالياً على منطق “أنا أو لا أحد” الذي تكرس في الأيام الماضية.
في لقائه بدياب وضعه أمام مسؤولياته السياسية والاقتصادية
والمالية. وهو يعلم أن هذه الحكومة لا يمكن أن تنجز، ولا أن تتجاوز العقبات
الكبرى التي أمامها، بمعزل عن احتمال تراجع دياب أو تشكيله الحكومة التي
قد تسقط في ما بعد. دعوته المتكررة لأنصاره للخروج من الشارع، تنم عن شعوره
بالمسؤولية، خصوصاً أنه ليس من المفيد ظهور التحركات في طابعها السنّي
الفاقع. وهذا على الرغم من أن الغضب السنّي مفهوم، وقد يكون مبرراً، بعد
سنوات من تثبيت معادلة الزعماء الأقوى في طوائفهم. فيما يحضر جمهور
الحريري مسرحية فرض التيار العوني وحزب الله مرشحهما لرئاسة الحكومة.
شعور السنة بالغدر
ثمة
ملاحظة هنا يسجّلها جمهور الحريري والبيئة السنية: اختفاء تحركات
الانتفاضة منذ عشية تكليف حسان دياب. لذا شعر السنة بأنهم مغدورين، وأن
الانتفاضة تخلّت عن مطالبها وشعاراتها، وكأنها اكتفت بإسقاط حكومة الحريري.
قد لا تنطفئ الانتفاضة. وقد تجد فرصة جديدة للانطلاق. ربما في تشكل الحكومة أو أدائها أو برنامجها، لتعود إلى الشارع.
لكن الأكيد في هذا السياق أن الحريري كان ضحية معطيات ووقائع سياسية محلية وخارجية.
طبعاً،
تكليف رئيس بتشكيل الحكومة في لبنان لا يمكن حصوله من دون إشارة دولية،
تتلاقى مع أجواء داخلية وخارجية تحدثت عن أن الدول لا تتمسك بأي شخص لتشكيل
الحكومة. وهذا يعني عدم التمسك بالحريري، الذي لم يجد حليفاً أو صديقاً في
الخارج.
هيل الواقعي وتقاريره
ليس بسيطاً تكليف حسان
دياب قبيل ساعات من وصول مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد هيل إلى
لبنان. وهيل يأتي في زيارة مماثلة لزيارتي المبعوثين الفرنسي والبريطاني،
لإعداد تقارير حول آخر التطورات في لبنان. ومعروف أن الأميركيين والغرب
سياساتهم واقعية. هذا ما عبرت عنه لقاءات هيل، الذي شدد على مبدأ تشكيل
حكومة تكنوقراط ومكافحة الفساد وإنجاز الإصلاحات، من دون الدخول في
التفاصيل. وهذا في مقابل تشديد عون وباسيل وحزب الله على أن الحكومة ستكون
حكومة اختصاصيين.
ربما دفع الحريري مرحلياً، ثمن عدم رغبته في الوقوف على “طريق الدببة”. فضّل عدم الذهاب في مواجهة، بناء على حسابات خارجية، تؤول في النهاية إلى توافق ما، مهما طال الزمن. وهذا يعني أن من يصعّد مرحلياً ويشارك فيه يدفع الثمن لاحقاً. خصوصاً أن التوقعات تشير إلى أن الأمور ستستمر على هذا المنوال ووسط المخاض نفسه، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتفعيل الحوار الأميركي الإيراني.
وهذا الوقت يمكن للحريري استثماره إيجابياً: أولاً، على صعيد تياره وبيئته، وبلورة رؤيته السياسية. وثانياً، بعدم ظهوره على أنه المسؤول عن الانهيار المقبل عليه لبنان.
واللافت، على خلاف كل ما جرى تسويقه في الأيام الماضية حول زيارة هيل، بدا الرجل مستمعاً أكثر منه متحدثاً أو عارضاً لشروط. بل هو تحدث بلغة هادئة حول الخروج من الحسابات الشخصية والحزبية وإنجاز الإصلاحات. وحتى موقف رئيس الجمهورية مع هيل كان إيجابياً. فعون شكره على الدعم الأميركي، وفاتحه في موضوع ترسيم الحدود البرية والبحرية، وطلب مساعدة الأميركيين في ذلك وفي سواها من المجالات.
طبعاً نجح حزب الله وعون وباسيل في استخدام لعبة الاستقرار، لاستمالة الواقعية الدولية، وخصوصاً الأميركية: تخيير المجتمع الدولي بين الاستقرار بحكومة عليهم التعاطي معها بواقعية، أو بالذهاب إلى فوضى وتوترات أمنية.
المدن