صراع على تقاسم لبنان في صفقة القرن الروسية- الأميركية
لن يكون لبنان بعيداً من تداعيات صفقة القرن. النقاش هنا، لا
يتعلّق بتمرير الصفقة أم بسقوطها. فهي لن تعبر حتماً. لكن الملفات
اللبنانية كلها أصبحت مرتبطة بها. من يرعى الصفقة دولتان كبيرتان، ورثتا
الدور البريطاني والفرنسي الذي رسم منطقة الشرق الأوسط وقسّمها إلى مناطق
نفوذ خاضعة لها قبل مئة. الدور اليوم للولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
تحضير الأرضية أمام “صفقة القرن” استغرق سنوات من الدمار والفوضى. كان
الدور الروسي فيها يتكامل مع الأميركي، بما تجلّى في سوريا. وتقاسم النفوذ
في سوريا سيشمل لبنان. وكانت إشاراته قد انطلقت من تدخل روسيا بقوة في
الملف اللبناني، عبر الفوز بمناقصة ترميم خزانات النفط في الشمال
واستثمارها، والدور الذي ستلعبه في ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، في
مقابل الدور الأميركي بعملية ترسيم الحدود بين لبنان والأراضي الفلسطينية
المحتلة.
تقاسم النفوذ
تحت هذا العنوان، تقدّم روسيا أكثر
من مقترح للاستثمار في لبنان، وتعزيز نفوذها فيه. منذ الإعلان عن
الاستعداد لتسليح الجيش اللبناني والقوى الأمنية، إلى اقتراح العديد من
المشاريع، من بينها مبادرة إعادة اللاجئين السوريين، وصولاً إلى حدّ إعداد
ورقة تحوي مقترحات لمساعدة لبنان مالياً واقتصادياً. وهي تتعلق بتمدد
النفوذ الروسي من سوريا إلى لبنان.
وعلى هذا، ينقسم اللبنانيون إلى فريقين. فريق يفضل الروس ومعهم الإيرانيين، وفريق ينحازللإرتباط بالدور الأميركي.
سيكون لبنان دولة يتجاذبها النفوذان الروسي والأميركي. وأي من
المشروعين، لن يكون مستقلاً عن ملفات المنطقة. بمعنى أن لا مساعدات ستأتي
من أي من الجهتين، إلا وستكون مرتبطة بتطورات الوضع في المنطقة. الأميركيون
يربطون المساعدات للبنان، أو التدخل لإنقاذه من الانهيار، بملف ترسيم
الحدود والتنقيب عن النفط وصواريخ حزب الله. والروس يربطونها بتكامل دورهم
بين الساحتين اللبنانية والسورية، والتي ترتبط بترسيم الحدود والنفط في
المناطق الشمالية.
ستة مليارات
كان مستشار الرئيس
الأميركي دونالد ترامب، والمشرف الأساسي على صفقة القرن جاريد كوشنير، قد
وعد المسؤولين اللبنانيين بمنحهم ستة مليارات دولار كمساعدة، مقابل ترسيم
الحدود وضمان أمن اسرائيل. وهذه المليارات هي الدفعة الضرورية والسريعة
التي يحتاجها لبنان لتسديد مستحقاته، وتكبح الانهيار السريع. حينها حاول
كوشنير مع الرئيس سعد الحريري تمرير ترسيم الحدود، من دون أن يتحقق. فاستمر
الضغط الاقتصادي على لبنان. وبالمقابل، تمسك حزب الله بملف ترسيم الحدود
الجنوبية، موكلاً إياه للرئيس نبيه بري. وهو يرتبط بسياق المفاوضات
الإيرانية الأميركية.
لن يحصل لبنان على أي من المساعدات، قبل الوصول إلى تفاهمات
دولية وإقليمية. صحيح أن هناك اهتماماً أوروبياً في مساعدة لبنان وإنقاذه،
مع شروط الإصلاحات، إلا أن الدور الأوروبي يبدو ثانوياً وغير مؤثر هنا، في
ظل التكامل الروسي الأميركي، والإلتقاء على هذه النقطة المركزية، على الرغم
من وجود خلافات روسية أميركية على ترسيم وتحديد مناطق النفوذ.
فرنسا، “توتال”، عون
هنا
تحاول فرنسا لعب دور مركزي في لبنان، لكنها تبدو عاجزة، في ظل رغبة
إيرانية بمفاوضة الأميركي مباشرة وعدم الاتكال على الوسيط الفرنسي، وطالما
أن واشنطن تريد إضعاف التأثير الفرنسي في المنطقة، وطالما أن دول الخليج
أيضاً تقف في صف واشنطن وتفضلها على الأوروبيين، ستبقى الحركة الفرنسية في
لبنان تستند إلى عامل أساسي هو تأمين كل الحماية لرئيس الجمهورية ميشال عون
وعهده، للحفاظ بموطئ قدم سياسية واقتصادية عبر شركة توتال، ومن خلال حرصها
على العلاقة بحزب الله. فيراهن حلف رئيس الجمهورية وحزب الله، على أدوار
كل من روسيا، فرنسا وإيران. بينما خصومهم ليس لديهم غير الأميركيين، الذين
يبدون مستعدين لمفاوضة إيران في مرحلة لاحقة.
يمتلك عون ورقة قوة اسمها المسيحيين وحمايتهم في الشرق. يلتقي
مع الروس والفرنسيين والأميركيين على مبدأ محاربة الإرهاب السنّي. هذا
الإرهاب نفسه الذي تراهن عليه إيران لحفظ تلاقيها مع هذه الدول. وهي اضطلعت
بدور عراقي وسوري ولبناني في مواجهته. فبذريعة محاربة هذا الإرهاب، قاتلت
إيران في العراق ضد داعش إلى جانب الأميركيين، وهو المبدأ نفسه الذي تغلغت
عبره في سوريا، ودخل حزب الله إليها أيضاً تحت العنوان ذاته، وصولاً إلى
مبدأ السيطرة على مناطق واسعة وتغيير الحدود. ودخول التنظيمات الإرهابية
إلى عرسال وجوارها، كانت عملية منظمة لتبرير مسح الحدود ومحوها بين لبنان
وسوريا، وإمساك إيران وحزب الله بالمناطق الأساسية جنوباً وشرقاً. الإلتقاء
على محاربة الإرهاب السني مع إيران أعلن عنه ترامب بعد اغتيال قاسم
سليماني.
لبنان والعرب
المشكلة الأكبر، أن الإعلان عن
صفقة القرن، يأتي بتوقيت تدعي فيه إيران بلوغها أعتى مراحل القوة في
المنطقة، مقابل الضعف العربي. فلو لم يكن هناك دور إيراني عسكري كارثي نجح
في تغيير ديموغرافية الدول العربية وإسقاطها سياسياً، لما كان بالإمكان
الإعلان عن هذه الصفقة، التي سيكون لها تداعيات ومندرجات لبنانية، عبر
تعزيز خطاب العنصرية والطائفية، وهو المبدأ “المشرقي” الذي يسير عليه رئيس
الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ، بالتحالف مع حزب الله، تحت مظلّة
موسكو كـ”راعية للأقليات في الشرق”، وفق تعبير عون أمام فلاديمير بوتين في
الكرملين.
مشكلة لبنان الحالية، ليست اقتصادية، وليست وفق ما هو معلن عنها بأنها أزمة الفساد والهدر أو أزمة مالية بحتة. هي بحقيقتها أزمة سياسية ترتبط بأزمات المنطقة. ولن يكون لبنان قادراً على الخروج منها من دون تفاهم دولي. وبما أن هذا التفاهم يرتبط حصراً بصفقة القرن، ونتاجها التغيير الديمغرافي في سوريا وفلسطين، والتغيير السياسي في العراق.. فلبنان الذي يمثل التنوع لن يستمر كما هو وفق السياسة الدولية، فالضغوط تهدف إلى إسقاط هذا النظام الذي يتناقض كلياً مع تنامي العنصريات في المنطقة والعالم، وتصغير حدود الدول إلى دويلات، طائفية أو عرقية، تتقاسم النفوذ فيها روسيا وأميركا، وبهما يكون أمن إسرائيل مضموناً، مع تحديد واعتراف بدور إيراني وتركي مضبوط، فيما الدور العربي يضمحل بالتبعية والإلحاق. ولذا، يبدو الدور العربي (وتحديداً الخليجي) الغائب أو الضعيف عن لبنان فاضحاً، تماماً كما حدث من قبل في سوريا.
المدن